معركة الفلوجة عمقت الشرخ في الساحة العراقية، وعلى العقلاء في العراق وفي العالم العربي والإسلامي عموما أن يتنبهوا إلى هذه المعضلة لأن الجميع سيخسرون إذا ما استمر صعودها في الأوساط الشعبية
خلال الأسابيع الأخيرة ومنذ أن تبدت ملامح فشل المفاوضات بين أهالي مدينة الفلوجة العراقية وبين الحكومة المؤقتة، وصولا إلى المعركة الهمجية التي شنتها قوات الاحتلال بمساعدة قوات الحرس الوطني العراقية على المدينة، سادت في الأجواء روائح طائفية خطيرة لم تعرف من قبل.

ولم يكن ذلك حكرا على العراق فحسب بل انتشر في كثير من الأوساط العربية والإسلامية، حيث نسب التواطؤ مع الاحتلال للصف الشيعي من قبل جماهير السنة، الأمر الذي لم يتوقف عند النخب السياسية والدينية أو ما يعرف بالإسلاميين أو العاملين في حقل الدعوة الإسلامية، بل نزل إلى قاع الشارع على نحو أكثر حدة وقسوة.

لا شك أن لذلك كله أرضيته التي استند إليها، وقد تمثلت تلك الأرضية في جملة معطيات، يأتي على رأسها سكوت المرجعية الشيعية العراقية وتحديدا السيد علي السيستاني والمراجع الثلاث الكبار (محمد سيد الحكيم، إسحق الفياض، بشير النجفي) على ما كان يجري في مدينة الفلوجة من مجازر بحق المدنيين ودمار شامل بحق المدينة ذاتها.

إضافة إلى كون الغالبية من بين أعضاء الحرس الوطني العراقي الذين شاركوا في الهجوم على الفلوجة، أقلها أولئك الذين شاركوا في حصار المدينة ومعاركها اللاحقة، من الشيعة. وهم ذاتهم -أي قوات الحرس الوطني- الذين يطاردون المقاومة في كل مكان.

ويبقى العنصر الأخير وربما الأكثر أهمية ممثلاً في الموقف المساند لقوات الاحتلال والحكومة من قبل الأحزاب الشيعية الرئيسية، وعلى رأسها المجلس الأعلى للثورة الإسلامية وحزب الدعوة الإسلامية بشقيه، فضلا عن حركة الوفاق الوطني بزعامة رئيس الوزراء المؤقت إياد علاوي وحزب المؤتمر الوطني بقيادة أحمد الجلبي.

"
المتمعن في قراءة الموقف الشيعي لا يمكنه القول إن ثمة إجماعا شيعيا لا على ما جرى في الفلوجة ولا على المسار الانتخابي, كما لا يمكن أن يقول إن ثمة صمتا شاملا قد حدث
"

ولعل ما ساهم في تفاقم الظاهرة وزاد الأمر سوءا أن الهجمة على الفلوجة قد وقعت في ظل مناشدات من قبل علماء أهل السنة للسيد علي السيستاني بإصدار فتوى تحرم مشاركة أي من عناصر الحرس الوطني العراقي فيها، وتستنكر مبدأ اجتياح المدينة بتلك الحجة المعروفة حول وجود الزرقاوي وبعض المقاتلين العرب فيها، الأمر الذي كان بالإمكان تسويته من خلال المفاوضات، وإن لم يكن بمنطق تسليم أولئك الشبان الذي ترفضه الأعراف العربية والإسلامية.

على هذه الخلفية بات حديث الكثيرين عما جرى يأخذ منحى التعميم لدى الحديث عن الشيعة ومواقفهم وتواطؤهم مع الاحتلال ضد أهل السنة، لاسيما حين جاء ذلك كله في سياق تصاعد الحديث في الوسط الشيعي عن ملف الانتخابات التي يصر كثير من رموزهم وعلى رأسهم السيد السيستاني على أهميتها بالنسبة إليهم من أجل إثبات أغلبيتهم في البلاد، ومن ثم استعادة حقهم المسلوب منذ عقود، بل منذ قرون بحسب البعض.

والحال أن مزيدا من التمعن في قراءة الموقف الشيعي مما جرى لا يمكن أن يقول إن ثمة إجماعا شيعيا على أي من المواقف، لا على المسار الانتخابي ولا سواه، كما لا يمكن أن يقول إن ثمة صمتا شاملاً قد توفر حيال ما جرى في الفلوجة.

صحيح أن الغالبية من بين المراجع والقوى السياسية كانت كذلك لكن ذلك لا ينفي عدد، ومن ثم أهمية، القوى التي سجلت اعتراضا، بل رفضا لاجتياح المدينة، وعلى رأسها التيار الصدري الذي لا يختلف كثيرون على أنه الأكثر شعبية بين القوى السياسية الشيعية عموما، وإن لاحظ الكثيرون غياب السيد الصدر نفسه عن ساحة الحدث وعدم خروجه بأي تصريح بشأن ما جرى.

لا ننسى في ذات السياق مواقف آخرين في الساحة مثل مواقف تيار الشيخ جواد الخالصي والسيد أحمد الحسني البغدادي، إلى جانب آخرين كثر شاركوا في المؤتمر التأسيسي العراقي لمقاومة الاحتلال الأميركي في العراق، وكانت لهم مواقف مغايرة وتحديدا من الانتخابات، وإن وافق التيار الصدري على المشاركة لاحقا قبل أن يعلق الموقف بسبب الهجوم على الفلوجة.

ونتذكر هنا موقف آية الله محمود الحسني الذي تعرض بسببه إلى مضايقات من قبل قوات الاحتلال والحكومة المؤقتة، بل ومن بعض العناصر والمجموعات الشيعية الأخرى.

الإجماع إذن لم يكن موجودا، وفي ذلك ما يكفي لرفض التعميم، لكن ذلك لا يشكل السبب الوحيد لرفضنا هذا المنطق، إذ ثمة إلى جانبه أسباب أخرى لا بد من إيرادها على رأسها أن مسار التعاون مع الاحتلال أو التواطؤ معه لم يكن يوما ذا هوية دينية أو عرقية محددة، حتى لو تفوقت فيه طائفة أو عرق على الآخرين لاعتبارات معينة، بدليل أن الأكراد السنة ليسو أقل تواطؤا مع الاحتلال من بعض القوى الشيعية، بل إن الثابت أنهم الأكثر تواطؤاً، ويكفي ما رشح عن الوجود الإسرائيلي المهم في مناطقهم، ولا نقع هنا في مطب التعميم أيضاً، إذ ثمة من بينهم من له مواقف مختلفة، لكننا نركز هنا على مواقف حزبي البرزاني والطالباني، بل وإلى جانبهم في سياق تبرير أفعالهم وزيادة الجرعة القومية والانفصالية حزب إسلامي سني أيضاً هو الاتحاد الإسلامي الكردستاني!!

"
المقاومون اليوم في العراق لم يلتفتوا إلى مسألة الطائفية ولم يفكروا فيما يتجاوز العدالة في سياق الحصص السياسية، حتى لو صح أن التهميش السياسي قد ساهم في زيادة عدد المنخرطين في المقاومة بشكل من الأشكال
"

هل نشير أيضا إلى بعض السنة, أليس الرئيس غازي الياور عربيا سنيا؟ وهل يكفيه بعض الاحتجاج الخجول على إفشال المفاوضات مع أهالي الفلوجة؟ ثم ألا يوجد في الحكومة خمسة أو ستة وزراء من العرب السنة لم نسمع من أحدهم صوتا رافضا لما يجري، بمن فيهم ذلك العضو في الحزب الإسلامي (حاجم الحسني) الذي فضل مقعده الوزاري الهامشي (الصناعة والمعادن) على حزبه وعلى العرب السنة عموماً؟!


ونشير هنا إلى أن موقف الحزب الإسلامي من الانتخابات لا يزال مائعا ويميل إلى المشاركة، خلافاًَ لآخرين في الساحة الشيعية، مع أنه كان قد وعد بعدم المشاركة في حال اجتياح الفلوجة.

ثم ألا توجد أحزاب عربية سنية ورموز معروفة لها صلاتها بالأميركان وبالحكومة المؤقتة، ومنهم مشاركون فيها، لم نسمع لأي منها موقفا رافضا مما جرى في الفلوجة وسواها، بل تأخذ عمليا ذات المواقف التي تتبناها بعض قوى الشيعة من الانتخابات ومن المقاومة؟

الأهم من ذلك كله أن مسار التعاون مع الاحتلال، بل العمالة له، لا يحتاج تعددية أو انقساما دينيا أو مذهبياً من الأصل، إذ يمكن أن يحدث في بلاد ليس فيها هذا النوع من الانقسام، كما هو حال الساحة الفلسطينية على سبيل المثال، وكما هو الحال في معظم تجارب التاريخ المشابهة حيث ينقسم الناس بين متعاون مع الاحتلال ومقاوم له، قبل أن يبدأ مسار التعاون بالانحسار شيئاً فشيئاً.

بالمقابل ومن باب الإنصاف والتوازن أيضاً، يبدو من العبث الحديث عن مقاومة طائفية بحجة أن العرب السنة هم وحدهم الذين يقاومون، مقابل رفض الشيعة والأكراد، ذلك أن مقاومة الجنوب اللبناني للاحتلال الصهيوني كانت طائفية أيضا، لكن أحدا لم يجرؤ على أن يعيب عليها ذلك، وقد حققت الانتصار على الأرض، فيما لم يطالب حزب الله تبعا لذلك بتحسين عدد مقاعد الشيعة في البرلمان أو حصتهم في الكعكة السياسية التنفيذية في البلاد، حتى في ظل قناعة سائدة في أوساطهم تقول إن عددهم الحالي يمنحهم نسبة أكبر من تلك التي يأخذونها.

إنني أجزم هنا بأن من يقاومون اليوم في العراق لم يلتفتوا إلى هذه المسألة ولم يفكروا فيما يتجاوز العدالة في سياق الحصص السياسية، حتى لو صح أن التهميش السياسي قد ساهم في زيادة عدد المنخرطين في المقاومة بشكل من الأشكال.

ثم لماذا قاوم التيار الصدري مع أن هواجس التهميش غير واردة بالنسبة إليه؟ سيقال بالطبع إن لذلك أهدافا سياسية تخص وجود التيار وحضوره. ألا يعني ذلك أن المقاومة تمنح صاحبها الحضور؟ مع أن تراجع التيار المذكور عن المقاومة لم يكن ذا صلة بالقناعة بقدر صلته بالعجز عن مواجهة المرجعية والتيار الجارف بين القوى السياسية الشيعية وضعف إمكانات المقاومة من الأصل، الأمر الذي يجعل عودته إليها واردة في أي وقت تبعا لمعطيات سياسية ولوجستية مختلفة.

هناك جانب على درجة من الأهمية ينبغي التطرق إليه في السياق الذي نحن بصدده، وهو المتعلق بذلك الخطاب التكفيري حيال الشيعية من قبل بعض مجموعات المقاومة، وهو أمر لا يقلل من خطورته القول إن ثمة من بين الشيعة من يكفر أهل السنة عموما، فنحن نتحدث هنا عن ممارسة معلنة تنطوي على تبعات وممارسات على الأرض.

هنا تبرز قصة خطاب الزرقاوي وبعض من يؤمنون بخطه الفكري والعقائدي الذي لا يتورع عن تكفير الشيعة كما لا يرى بأسا في استهدافهم بشكل من الأشكال، وصولاً إلى وصف السيد علي السيستاني برأس الكفر، كما في الرسالة الأخيرة للرجل التي بثت في بعض مواقع الإنترنت خلال معركة الفلوجة.

"
معركة الفلوجة عمقت الشرخ في الساحة العراقية، وعلى العقلاء في العراق وفي العالم العربي والإسلامي عموما أن يتنبهوا إلى هذه المعضلة لأن الجميع سيخسرون إذا ما استمر صعودها في الأوساط الشعبية
"

إن هذا اللون من الخطاب لا يمكن أن يكون مقبولا، لا من الناحية الدينية ولا من الناحية السياسية. فمن الناحية الأولى يمكن القول إن جمهور علماء السنة لم يخرجوا الشيعة من الملة. أما من الناحية السياسية فإننا إزاء بلد متعدد المذاهب والأعراق لابد أن يتعايش أهله معاً، لأن أحدا لا يمكنه إبادة الآخر أو نفيه.


ومن الواجب على تيار المقاومة ألا يتعجل المواقف المؤيدة من قبل المجموعات المذهبية والعرقية والقوى السياسية، كما أن عليه أن يسعى إلى كسب المزيد من الأصدقاء وليس زيادة الأعداء، ولا يكون ذلك بغير التركيز على الخطاب الوحدوي الذي يتبنى القواسم المشتركة بين أهل البلد الواحد، ومعه التركيز على استهداف الاحتلال ومن يتعاونون معه بشكل سافر ومباشر، وليس أولئك الذين يعتقدون بوجود مسار سياسي يبشر بإمكانية أخذ الاستقلال والسيادة بالتفاهم.

بالمقابل فإن على الطرف الآخر أن يكف عن لعبة وضع المقاومة كلها في سياق القتل الأعمى والتكفير، لاسيما وهو متلبس بحصاد ثمارها في وضح النهار.

نعم عليه أن يكف عن ذلك الخطاب، ليس بسبب زيف حيثياته وحججه فحسب، بل لأنه أيضاً يسيء إلى الشعب العراقي الذي لا يمكن أن يجمع على الركون للاحتلال، فضلاً عما ينطوي عليه ذلك الخطاب من مساهمة في تعزيز مساحة التطرف لدى قوى المقاومة وفضائها الشعبي، وهو ما حدث في سياق معركة الفلوجة مع شديد الأسف.

بقي أن نشير إلى قضية في منتهى الأهمية سبق وتوقفنا معها في مقال خاص، ونعني تلك التي تتصل بالموقف السياسي العام لجماهير الأمة حيال هذا الزعيم السياسي أو ذاك، أو هذا التيار أو ذاك، وهو موقف لم يكن يلقي الكثير من الانتباه للأبعاد المذهبية، بقدر ما يعنى بالموقف من الهجمة على الأمة.

على هذه الخلفية كان الموقف من الإمام الخميني، وعلى ذات الخلفية كان الموقف من السيد حسن نصر الله، بل لعل ذلك هو ما يفسر الموقف من صدام حسين نفسه. أما الآن فنحن لم نسمع أحداً يسأل عما إذا كان هذا الوزير في حكومة علاوي، لاسيما الذين باشروا الترويج للهجوم على الفلوجة، سنيا أم شيعيا أم كرديا.

ما يمكن أن يقال ختاما هو إن معركة الفلوجة قد عمقت الشرخ في الساحة العراقية، وعلى العقلاء في العراق وفي العالم العربي والإسلامي عموما أن يتنبهوا إلى هذه المعضلة لأن الجميع سيخسرون إذا ما استمر صعودها في الأوساط الشعبية، ووحده المحتل هو الذي سيربح. ألم يقل مارتن إنديك قبل عامين إن علينا أن نعتمد سياسة فرق تسد حتى ننجح في حكم العراقيين؟!



المصدر : الجزيرة نت</FONT></B>