أما لماذا سميتهم بالجدد، فذلك لأن هناك من تصهينوا من قبل في المنطقة – مع اختلاف الدور والمهمة والوظيفة – وهو ما تم كشفه في تلك المرحلة عندما لاقوا مقاومة عنيدة من إسلاميين ومن أصحاب آراء أخرى قومية ووطنية، وصفوهم باللوبي الصهيوني، في معارك سياسية وبعدما وصلت الأمور إلى المحاكم في بعض الأقطار العربية ...إلخ.
وتعبير 'جديد' هنا لا يمثل محاولة لتمييز جيل جديد عن الجيل القديم فقط، ولكنه يعود بالأساس إلى أن دور المتصهينين العرب الجدد دور جديد مقارنة بالقدامى، وأنهم بالفعل يطرحون مشروعًا جديدًا. فإذا كان المتصهينون العرب القدامى يلعبون دورهم بصورة 'متخفية'، ويمارسون التخريب المستتر من خلال طرح شعارات التعاون مع 'حركات سلام داخل الكيان الصهيوني'، أو من خلال تخريب المقدرات الأساسية الداخلية للمجتمعات العربية والإسلامية على المستويات الاقتصادية أو السياسية إلخ، فإن المتصهينين العرب الجدد صاروا يطرحون مشروعًا صهيونيًا متكاملاً، كما صاروا يعملون جهارًا لخدمة الحركة الصهيونية وبلا مواربة، وكذا أن نشاطهم التخريبي لم يعد مقتصرًا على العمل المستتر أو المموه في السياسة كما كانوا في البداية حينما تبنوا مقولات تتحدث عن عدم موائمة العمليات الاستشهادية للمصلحة العربية، أو بالحديث عن عدم وجود توازن قوى يسمح بالعمل المسلح ..إلخ، بل باتوا يسفرون عن وجههم في الحركة والنشاط والكتابة، كما باتوا بشكل سافر يهاجمون الإسلام ويطعنون في العقيدة بشكل مباشر، وهي حالة جديدة وصلوا إليها بالعمل تحت الحماية المباشرة للجيش الأمريكي بعد احتلال العراق، وبسبب حالة ضعف أنظمة الحكم العربية والإسلامية.
كيف جرى وصفهم من قبل؟
أولاً: الطعن في الإسلام عقيدة وفقهًا وحضارة وتاريخًا، سواء كان ذلك بشكل مباشر بالقول إن لا مقدس لا يمكن التفكير فيه بمنطق الصح والخطأ وأن النص القرآني يجوز التعامل معه كنص تاريخي – والعياذ بالله – أو كان ذلك بشكل غير مباشر عند بعضهم بالالتفاف حول التفسيرات، أو بالهجوم على كل تفسير صحيح للإسلام وبشكل خاص للآيات القرآنية التي تتعلق بالجهاد أو بالمواريث أو بتعدد الزوجات أو بقوامة الرجل على المرأة... إلخ.
ثانيًا: الطعن في فكرة أننا أمة واحدة سواء على مستوى الفهم الإسلامي أو حتى على مستوى الفهم القومي، واتهام كل مدافع عن فكرة الأمة، بأنه عنصري وفاشي يحمل دعوة عنصرية ضد المجموعات البشرية الأخرى داخل الدول العربية – الأكراد والبربر أو الأفارقة – أو أنه يحمل دعوة لتطبيق الشريعة الإسلامية على غير المسلمين ..إلخ.
ثالثًا: التبشير بنهاية الوطن والوطنية، وأن الوطن لم يعد سوى مساحة جغرافية من الأرض وأن المواطنين لم يعد يجعهم سوى بعض الخصوصيات المتآكلة الآن بفعل العولمة وترويج ما يسمونه الآن 'بالثقافة العالمية' التي يزعمون أنها باتت تحل تدريجيًا محل الثقافة المحلية أو الوطنية، سواء كان ذلك انطلاقًا من فكرة زوال الحدود وسيادة العولمة أو كان ذلك حسب مفاهيم انتهاء الدولة القومية.
رابعًا: الدعوة بكثافة إلى كل ما يثير الاضطراب داخل المجتمعات الإسلامية والعربية – بتأليب الأعراق والأقليات ضد الأغلبية –، وداخل كيان الأسرة – حقوق المرأة من وجهة النظر العلمانية -، والدفع بالحوار الفكري إلى قضايا تغيير العقيدة – حرية الفكر بالمعنى اللاديني للتفكير-..إلخ
هذا عن ما يطرحونه أما أهدافهم فالفكرة المبسطة والأولية هي أنهم يؤدون دورًا يعجز عنه الأعداء، أو هم بالدقة يقومون بالدور الذي يعجز عنه أعداء الأمة بقواتهم العسكرية وبشكل أكثر دقة، فهم يقومون بالدور الذي يكمل مهمة الغزو العسكري، حيث الحروب لا تنجح أبدًا في تحقيق نتائجها إذا اقتصرت على العمل العسكري – بل حتى العمل العسكري لا يتم دون حرب نفسية – إذ أن العمل العسكري في حد ذاته لا ينجم عنه إلا هزيمة القوة العسكرية للبلد الذي تجري مهاجمته أو يجري العدوان ضده، وهو أمر لا ينجم عنه هزيمة لإرادة المجتمع.
ولذلك هم يركزون هجومهم على المقومات الصلبة لبناء الإنسان من عقيدة وفكر، وكذلك يوجهون هجومهم ضد كل الحركات الجهادية في الأمة. فمن يتابع كتابات هؤلاء المتصهينين العرب الجدد يلحظ أنهم دأبوا وباستمرار على الهجوم العنيف على المقاومة الجهادية المسلحة في فلسطين والعراق وأفغانستان حتى وصل الأمر بأحدهم – كمال غبريال – إلى القول بأن الشعب الفلسطيني سيهزم في النهاية 'الإرهابيين' في فلسطين، وأن الشعب الفلسطيني سينتصر على أمراء الموت وسيمد أيديه بالسلام إلى جيرانه بدلاً من الأحزمة الناسفة'.
وهم كذلك يصفون المقاومة العراقية بالإرهاب ويعتبرون أن المعركة الجارية في العراق ليست معركة ضد الاحتلال، وإنما معركة بين الشعب العراقي والإرهابيين، ومن ثم فهم يقومون بدور أخطر من هؤلاء الذين يقومون بدور الطابور الخامس خلف خطوط الدفاع في الأمة أو بدور الحرب النفسية والتيئيس لعوامل النهوض والمقاومة أو بدور المروجين للاستسلام للأعداء، حيث إنهم يضربون في صميم عقيدة الأمة وملامح هوية الأمة على جميع الصعد؛ لجعل الإنسان العربي المسلم مجرد إنسان بلا هوية، يسهل تشكيل عقله على هوى المحتل، وذلك هو ما دفع الكثيرين للربط بينهم وبين المحافظين الأمريكيين الجدد الذين يستهدفون فرض القيم الأمريكية على المجتمعات العربية والإسلامية.
ففي الحالة العراقية تشكل نمط خاص كبير من فرق العملاء هؤلاء ومن أطياف محددة لعبوا الدور الأكبر في التغطية على الاحتلال وجرائمه وحاولوا أن يعطوه سندًا شرعيًا للوجود على أرض أمتنا، في مقابل الحصول على إمتيازات في الحكم وفي تنمية مصالحهم الخاصة. لكن الحال في البلدان الأخرى يأخذ أشكالاً متعددة ومتنوعة أخرى، حيث هناك جيوش من العملاء تجري عملية تربيتهم في المنظمات الممولة أمريكيًا وأوروبيًا تحت لافتات متعددة ومتنوعة مثل منظمات الدفاع عن المرأة ومنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان... إلخ، ومن هؤلاء المتصهينين العرب الجدد الذين هم أعلى أشكال الارتباط بالأعداء والعمل في خدمتهم حيث هم لا يخوضون معارك ضد أمتهم على مستويات قطاعية أو نوعية – المرأة أو حقوق الإنسان – وإنما هم يدخلون معارك ضد صلب العقيدة والهوية. وقد كان تمويل مثل هذه الظواهر يجري من قبل في مصر - مثلاً - وفق أنماط من السرية أو وفق حالات مقننة، حيث كانت الأموال تصل إلى هؤلاء عبر وزارة الشئون الاجتماعية وخصمًا من المعونة المقدمة للحكومة المصرية، إلى أن تطور الأمر بعد احتلال العراق وأخذ مدى أبعد، حيث أصبحت السفارة الأمريكية في القاهرة هي التي تتولى مباشرة عملية تسليم الأموال، وفي احتفالات تدعى إليها مختلف أجهزة الإعلام، ليجري توزيع مبلغ سنوي يتراوح بين 40 و50 مليون دولار سنويًا.
وهناك أشكال أخرى لدعم مثل هذه العناصر المخربة وفي إطار تحويلهم إلى نخب بارزة إعلاميًا، كأن تُدعى مثل هذه الشخصيات إلى مراكز الأبحاث الأمريكية والبريطانية والفرنسية والصهيونية لإلقاء محاضرات في رحلات تدوم لنحو 3 و6 أشهر مثلاً، يتم خلالها تكثيف الضوء الإعلامي عليهم خلالها، كما يعود كل منهم من رحلته بأموال لا حصر لها ولا حد، كما أن هناك إتاحة مساحات للكتابة لأفراد من هؤلاء مع دفع مقابل مالي كبير يفهم منه الممنوح للمال دوره ليكثر منه، وكلما أكثر وأجاد حصل على مال وشهرة أضخم وأكبر. وفي كل ذلك فالأهم أن كل هؤلاء باتوا يحظون بحماية أمريكية داخل البلاد العربية والإسلامية، بما يجعل الحكومات غير قادرة على المساس بهم، مهما فعلوا أو قالوا، وهو نمط جديد مختلف عما عرفته المجتمعات العربية وهي تحت الاحتلال، حيث كان النمط السائد هو حماية الأجنبي ومحاكمته وفق قوانين بلده الأصلي، وأمام محاكم مشكله من أبناء جلدته – المحاكم المختلطة - أما الآن مثل هؤلاء الأشخاص إما باتوا محميين بالجنسية الأمريكية أو هم محميون بالضغوط الديبلوماسية والإعلامية الأمريكية.
وكذلك إذا كان الأخطر على الحركة الصهيونية الآن هو المقاومة الجهادية المرتكنة إلى الإسلام عقيدة ومنهجًا، فإن هؤلاء وجهوا فوهات هجومهم ضد هذه الحركات الجهادية تحديدًا، وأيضًا هم يدعون إلى مسالمة الأعداء في فلسطين والعراق، ويرون أن الاحتلال شرعي وأن معركة الشعوب هي مع الحركات الجهادية لا مع الاحتلال.