وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد؛ فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد e، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
فهذا المقطع جزء من خطبة النبي e، كان يردده في كل خطبه أو جلها؛ كما في حديث جابر رضي الله عنه.
لقد وصف رسول الله e البدع بأنها شر الأمور، وبأنها ضلالة، وفي راوية في غير هذا الحديث، "وكل ضلالة في النار"، ويكرر هذا في كل خطبه من خطب الجمعة، يصاحب ذلك غضبه الشديد، كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم، ويعلو بذلك صوته.
كل هذا ولم تكن قد حدثت البدع بعد، بل لم يحدث شيء منها.
ولقد وقع الكثير والكثير مما حذر منه رسول الله e، ولا سيما في القرون المتأخرة.
ثم هيأ الله للأمة الإسلامية من يحدد لها دينها، ويرد الكثير ممن أراد الله له الخير إلى حظيرة التوحيد والسنة في الجزيرة العربية وغيرها من بلدان المسلمين، فعمت اليقظة أنحاء العالم الإسلامي، وبدأت الأنظار تتجه إلى الحق والتوحيد، وتتنكر للشرك والبدع، وبدأ شباب الأمة في العالم يبحث عن النور والهدى، ويرفض الخرافات والبدع، ويرفض كل أشكال الباطل والضلال الذي زحف على الأمة من دول الكفر الشرقية والغربية، سواء منها ما يتعلق بالعقائد، أو ما يتعلق بالحاكمية والتشريع، وما يتعلق بالأخلاق والاجتماع والاقتصاد والسياسة.
ولقد كان في الكتاب العزيز والسنة المطهرة ثم فقه سلف الأمة ومؤلفات من التزم منهج السلف ودعا إليه في كل مجال؛ مثل مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير، ومؤلفات رجال الدعوة السلفية في الجزيرة والهند والشام ومصر، ما يكفي ويشفي ويروي غلة هؤلاء الشباب ويشبع تطلعاتهم.
ولكن؛ مع الأسف الشديد، تصدى لدعوة الشباب وتوجيههم وتربيتهم كثير وكثير ممن لا يعرف منهج السلف في العقيدة وغيرها، ولا يميز بين السنة والبدعة، وكتبوا الكثير والكثير في شتى الميادين، وكان لما طرحوه وكتبوه للتوجيه دعايات ضخمة ونشاطات قوية، احتوت كثيراً من شباب الأمة، وألقت في روعهم التهوين من شأن البدع والشرك، والتهوين من شأن التوحيد والسنة ومنهج السلف الصالح، فكان لذلك آثاره الخطيرة حتى في نفوس من ينتسب إلى مدرسة السلف والمنهج السلفي؛ إلا من رحم الله.
واستفحل هذا الأمر واشتد، ورافقه غلو وتقديس للأشخاص مهما غلظت بدعهم وعظمت أخطاؤهم، مما ينذر بشر خطير، وينذر بعودة الأمة إلى الدوامة التي تطلعت وتحفزت للخروج منها.
فرأيت أن لهؤلاء الشباب الذين لا يشك عاقل أنهم يريدون للإسلام وللأمة الخير والعزة والكرامة حقاً عظيماً وواجباً كبيراً على حملة العلم أن يبينوا لهم الحق، ويفصلوا لهم بين الهدي والضلال والحق والباطل، ويميزوا بين دعاة الحق والهدي وبين غيرهم ممن حذر منهم رسول الله e، حتى يُنزلوا الناس منازلهم.
فتصديتُ لبيان بعض ما وقفت عليه في كتب سيد قطب من مخالفات خطيرة لما جاء به رسول الله e، وما كان عليه أصحابه وخيار الأمة في العقائد وغيرها، وتفنيد ذلك بالحجة والبرهان ما استطعت إلى ذلك سبيلاً؛ كل ذلك نصحاً للأمة.
وإني لأرجو الله أن يوفق كل عالم مخلص يشعر بثقل الأمانة التي حملها ويشعر بعظم المسؤولية أمام الله أن ينهضوا بواجب النصح والبيان لهؤلاء الشباب وغيرهم، حتى يقيموهم على المحجة البيضاء التي تركهم عليها رسول الله e، والتي لا يزيغ عنها إلا هالك.
وأرجو الله أن يوفقهم ليسلكوا مسلك أئمة الإسلام في بيان الحق والتحذير من الشر والبدع وأهلها؛ كالإمام الشافعي، والإمام أحمد، والإمام البخاري، وعبد الله بن أحمد، وابن خزيمة، والآجُرِّي، واللالكائي، وابن بطة، وابن تيمية، وابن القيم، وابن عبد الوهاب، وأمثالهم ممن صدع بالحق ولم تأخذهم في الله لومة لائم.
الأسباب الموجبة للكتابة في عقيدة سيد قطب وفكره:
إن على المسلم، وخاصة حملة العلم الشرعي، واجبات عظيمة نحو الأمة الإسلامية والشباب، ويرجع معظمها:
أولاً: إلى بيان الحق والفصل بينه وبين الباطل وبين الهدي والضلال.
قال تعالى: ]وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ[([1]).
وقال تعالى: ]إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[([2]).
وقال تعالى: ]إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاعِنُونَ إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ[([3]).
وحيث إن سيد قطب قد فسر كتاب الله، وتعرض للعقائد والقضايا التي بينها القرآن للناس ليهتدوا بها فيسعدوا في الدنيا والآخرة، وآمن بها الصحابة والتابعون لهم بإحسان وتابعهم عليها أئمة الهدى من مفسرين ومحدثين وفقهاء، وخالفهم فيها أهل البدع والضلال، وكانت مواقف سيد قطب على سنن هؤلاء المخالفين؛ رأيت أنه يتحتم عليَّ وقد علمت ذلك أن أقوم بواجب البيان الذي حتمه الله علي.
ثانياً: وقد يلتقي مع الأول: أن الله فرض علينا النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا شك أن مخالفة ما بينّه الله في كتابه من أمر العقائد وبينه رسول الله e في سننه وهديه من أعظم المنكرات، وإغفالها والسكوت عن بيانها بعد العلم بها من أعظم الغش والخيانة للإسلام والمسلمين، ولا سيما إذا رافق هذا الكتمان والسكوت تلبيس وتمويه وإشعار بأن كتابات هذا الرجل كلها نور وهدى، وكأنما كتبت من الجنة، وقد قيل ذلك مع الأسف.
ثالثاً: الغلو الشديد في سيد قطب وإطراؤه ونسج الهالات الكبيرة حول شخصيته ومؤلفاته مما بهر الناس به وبكتبه، فجعلهم في وضع لا يفكرون فيه ولا يتصورون سيد قطب على حقيقته، ولا يتصورون كتبه على حقيقتها، ولا يدركون ما حوته من أخطاء كبيرة، إذا اكتشفها المؤمن؛ ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وأدرك أن دينه يحتم عليه واجب البيان لما انطوت عليه هذه الكتب من باطل وضلال قد أخفته تلك الدعايات.
رابعاً: إصرار المشرفين على تراثه – وعلى رأسهم محمد قطب – على طبع كتبه والإلحاح على ذلك بحيث يطبع كل كتاب من كتبه المرات العديدة:
- فهذا "الظلال" الذي جمع فأوعى من ألوان البدع الشيء الكثير قد طبع سبع عشرة مرة([4]).
- وهذا كتابه "معالم في الطريق" قد طبع خمس عشرة مرة.
- وهذا كتاب "العدالة الاجتماعية" قد طبع اثنتي عشرة طبعة.
وهناك طبعات أخرى غير شرعية لهذه الكتب.
وهكذا سائر كتبه مع ما حوته من باطل وبدع عظيمة، حظيت بما لم تحظ به مؤلفات أئمة الإسلام الكبار؛ كالإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، وابن حبان، والدارقطني، وابن تيمية، وابن القيم، والذهبي، وابن عبد الوهاب، وغيرهم من أئمة الإسلام... وما ذلك إلا نتيجة التدليس على الأمة، والدعايات الضخمة لترويج هذه الكتب وأمثالها، وترويج مافيها من عقائد وأفكار.
خامساً: أقدم نموذجاً لإصرار سيد على ما ضمنه كتبه من أفكار ومبادئ: كتاب "العدالة الاجتماعية في الإسلام"، هذا الكتاب من أقدم مؤلفاته، وفيه من الضلال ما يرفضه ويستنكره أشد الناس جهلاً في العالم المنتسب إلى السنة، وأشدهم إغراقاً في التصوف، ألا وهو الطعن في أصحاب رسول الله e.
لقد أصر سيد قطب وأخوه محمد، بل والإخوان المسلمون، على بقاء هذا الطعن واستمراره أكثر من أربعين سنة، على الرغم من تنبيه العقلاء على فظاعة هذا العمل وبشاعته.
قال الدكتور صلاح الخالدي – أحد المعجبين بسيد قطب ومنهجه ومبادئه – في كتابه "سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد" خلال حديثه عن كتاب "العدالة الاجتماعية":
"وقد أشرنا إلى أثر الكتاب في مختلف الأوساط الحكومية والشيوعية والإخوانية، وأن سيداً اقترب بكتابه هذا كثيراً من الإخوان المسلمين، إلى أن ربط مصيره بمصيرهم بعد ذلك.
وقد اتهم محمود شاكر سيد قطب في "العدالة" بإساءته القول في حق الصحابة، وانتقاده للخليفة الراشد عثمان بن عفان.
وقد طبع الكتاب عدة طبعات في حياة سيد، كانت آخرها الطبعة السادسة التي أصدرتها "دار إحياء الكتب العربية" عام 1964م، وهي طبعة منقحة، حيث حذف منها العبارات التي أخذها عليه محمود شاكر وغيرُه، والمتعلقة بعثمان ومعاوية رضي الله عنهما، وأضاف لها فصل (التصور الإسلامي والثقافة)؛ أحد فصول "معالم في الطريق".
أي أن سيداً أضاف لكتاب "العدالة الاجتماعية" عام 1964م أفكاره الحركية الإسلامية، ودعوته إلى بعث طلعي، واستئناف الحياة الإسلامية على أساس مبادئ الإسلام.
وبهذا نعرفُ أنَّ سيداً لم يتخلَّ عن كتابه "العدالة الاجتماعية في الإسلام"، بل بقيَ يقول بما فيه من مبادئ وأسس وأفكار حتى محنته عام 1965م"([5]).
فهذا يبين إصرار سيد قطب على الطعن في أصحاب رسول الله e، وإصراره على الاشتراكية الغالية التي قررها في هذا الكتاب، وإصراره على رمي المجتمعات الإسلامية كلها بأنها مجتمعات جاهلية؛ أي: كافرة! ويشاركه في المسؤولية عن هذه الأمور المروِّجون لفكره ومذاهبه، بل يتحملون المسؤولية أكثر منه.
سادساً: احتجاج أهل البدع والضلال بطعن سيد قطب في عثمان رضي الله عنه وفي أصحاب رسول الله e؛ إذ يرون أن في طعن سيد قطب وأمثاله من أهل الأهواء المنتسبين إلى السنة حجة لهم على جواز الطعن والنيل من الصحابة الكرام.
فهذا الإباضي الخارجي المحترق أحمد محمد الخليلي مفتي عمان وكبير خوارج هذا العصر الحاقدين على أصحاب رسول الله e يقول في مقابلة أجراها معه لفيف من اللجنة الثقافية حينما زار النادي الثقافي في السلطنة في يوم الاثنين 29 رجب 1404هـ، ونشرتها مجلة جبرين التي يصدرها الطلبة العمانيون في الأردن؛ كتب يقول الخليلي الإباضي المذكور من كلام طويل في هذا المقابلة:
"ولست هنا بصدد الحكم في تلك الفتنة العمياء، ولا على أحد ممن خاض في تلك الفتنة أو من أصيب بشيء من شررها، وإنما كل ما أريده الآن هو دفع الاتهامات التي توجه إلى الإباضية لأنهم يعادون بعض أصحاب رسول الله وينالون من كرامتهم.
والذي أريد أن أقوله: أن الإباضية ليسوا وحدهم في هذا الميدان؛ فكثير من الناس تحدثوا عن تلك الفتنة وبينوا ماحدث فيها".
ونقل شيئاً عن "العقد الفريد"، وعن "البيان والتبيين"، وعن "الإمامة والسياسة" لابن قتيبة زوراً، ثم دلف إلى القول الآتي:
"وإذا جئنا إلى أعلام الفكر الإسلامي لعصرنا الحاضر؛ نجد كثيراً منهم تناول هذه الفتنة، وتحدثوا عما جرى فيها بكل جراءة، ومن هؤلاء شهيد الإسلام الأستاذ سيد قطب في كتابه "العدالة الاجتماعية في الإسلام".
ثم قال:
"فلنسمع معاً بعض ما قاله الأستاذ سيد قطب في (ص 210) من كتابه المذكور:
وهذا التصور لحقيقة الحكم قد تغيَّر شيئاً ما دون شك على عهد عثمان، وإن بقي في سياج الإسلام. لقد أدركت الخلافة عثمان وهو شيخ كبير، ومن ورائه مروان بن الحكم يصرِّف الأمر بكثير من الانحراف عن الإسلام، كما أن طبيعة عثمان الرخيَّة، وحدبه الشديد على أهله، قد ساهم كلاهما في صدور تصرفات أنكرها الكثيرون من الصحابة من حوله، وكانت لها معقبات كثيرة...".
ثم نقل عن سيد من (ص 210 – 212) طعناً شديداً على عثمان الخليفة رضي الله عنه، لا يتسع المجال لنقله في هذه المقدمة، لكن فيه شاهداً على أن سيداً قد أصبح حجة لأهل البدع في الطعن والتحامل على أصحاب رسول الله e.
هذه الأسباب وغيرها دفعتني إلى أن أقوم ببعض الواجب الذي يُطْمِعني في أحسن الجزاء والمثوبة من الله الكريم العظيم، ويُطْمِعُني في أن يستجيب لصوت الحق أناس مخدوعون ببريق الباطل وجعجعته وضجيجه، فأدخل باستجابتهم في قول الرسول e: "من دعا إلى هدى؛ كان له من الأجر مثل أجور من تبعه إلى يوم القيامة".
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
كتبه
ربيع بن هادي عمير المدخلي
عضو هيئة التدريس في الجامعة الإسلامية
([1]) آل عمران: 187.
([2]) البقرة: 174.
([3]) البقرة: 159 – 160.
([4]) وقد بلغت طبعات الظلال إلى الآن إلى ثلاث وثلاثين طبعة.
([5]) "سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد" (ص 540).
تعليق