يآآآآآه..سرعان ما اقتربت النهاية.. وما أعجل العمر على الإنقضاء.. هكذا كانت نهاية الرحلة بالنسبة لورقة شجرٍ بدأ اللون الأصفر يتهدد إخضراراها الزاهي ليحوله إلى شحوبٍ كأنه علامة لقرب السقوط.. و حفيفٌ بدأ يتعالى صوته مع مطلع أيلول.. إنه صراخ أوراق الشجر.. المترنحة مع كل هبة لرياح الخريف..
نعم.. إنه عمر أوراق الشجر.. بعد تسعة أشهر كانت تعني كل العمر بالنسبة لورقة صامدة الآن في مهب الرياح الخريفية العتية.. التي تنسل إلى كل مواطن الحس في عروق الشجر لتبدأ تجميدها تدريجياً بغية الذهاب باللون الأخضر.. اللون الذي لا يُلائم رغبة الخريف العارمة.. أن يكون اللون السائد هو اللون البني.
تآمرت الشمس مع الخريف كي لا ترسل الدفء الصيفي الذي يمنح الأوراق قوة المقاومة.. فتلبدت
خلف غيومٍ قاتمة.. صامتة.. غير مبالية بصرخات الاستنجاد التي دوت عالياً من تلك الأوراق.. مع كل هبة للرياح.. وكل نفحة بردٍ محمولة.. وكل قطرة ندى تمادت لتصنع المطر..
تذكرت وقتها تلك الورقة الملونة, كل لحظةٍ مرت بها عبر هذا الزمن القصير.. هذا العمر الهارب الآن منها.. تذكرت وتذكرت... آآآآآآآآه ما أقصى الزمن.. وما أضيع العمر..
كانت الولادة في أحدى ليالي آخر شهر يناير ( كانون الثاني ) حين منح الشتاء فرصة الدفء وهلة.. لتبرز ملامح شباط على صدر كل شجرة.. فترسل الأشجار ابتسامات من النوار.. وتظهر براعم الربيع طلائعاً تبشيرية.. أن الشتاء قد بدأ الانسحاب مخلفاً ثلجاً ذائباً.. ورياح الصبا الصباحية تتلاعب بأريج الزهر.. فتنشره درر.. صحبة رائحة الليمون الزاهر.. فيأتي مارس وقد غدت البراعم أوراقاً زكية.. جميلة يعشقها الندى.. فيغازلها صباحاً.. ويعانقها مساءاً..
الصيف.. ما أجمل التكاثف بين الأوراق.. تغطى كل غصنٍ وساق.. وكل ثمرةٍ قد نضجت وفاحت.. تغري الأيادي للقطف.. فتختبيء تلك الثمرة خجلاً كل تارةٍ بين الأوراق.. فقد حان موعد العرس الصيفي.. فاكهةً فاق طعمها أريج عطرها..
كم كانت قوية هذه الأوراق قبل أسابيعٍ قليلة مضت.. كانت تمد ظلالها الوارفة لتقهر الهجير وتعانده كل ظهيرة.. لتبث النسيم اللطيف المنعش.. دون مِنة منها أو تباهٍ بالجميل..
كانت قوية هذه الأوراق.. حين كانت تمتص كل الغازات المنبعثة.. و كل الملوثات.. فتمنع موتاً محققاً و اختناقا.. دون مِنة منها أو اغترارٍ بصنع الجميل..
ويأتي الخريف.. دون اعتراف منه بكل هذا.. ينكر حق بقاء الورقة الصغيرة.. وينفث عليها بكل قواه.. فيلقيها طريحةً.. صريعة..
تطايرت الأوراق.. وتهادت على بساطٍ باردٍ .. موتاً .. تجردت الأشجار من الوقار.. وبدأ التمهيد لشتاءٍ قارص..
لكن.. لابد و أن ينتهي الشتاء.. وتولد في الأشجار.. ورقة. و ورقة.. و ورقة.
تعليق