التتار اليوم في العراق أشد وطأة من تتار الأمس، وهولاكو اليوم أكثر ظلما من هولاكو الأمس، وإذا كان النظام السابق قد ضرب مدينة أو قتل معارضين فإن النظام الحالي (الديمقراطي بالمفهوم الأمريكي) دمر جميع المدن وقتل الكثير من العراقيين وكل هذا على الهوية وحرق المساجد وقتل أئمتها وكل ذلك على الهوية.
والسؤال الذي يطرح اليوم ما الذي جناه العراقيون من هذا التغيير؟ أليس الأمس بويلاته وظلمه وقسوته أهون على العراقيين من اليوم؟ ألم يكن بإمكان العراقي أن يخرج من بيته وأن يعود وأن يمارس ما يشاء من أعمال من دون أن يتعرض له أحد؟ أما اليوم فالخروج من البيت مغامرة، والذهاب إلى الدائرة مغامرة، والالتحاق بالعمل مغامرة، والصلاة في المسجد جريمة يدفع صاحبها من أجل ذلك حياته، أهذه هي الحرية والديمقراطية؟ أهذا هو العراق الجديد الذي حلم به العراقيون؟ ما الذي فعله صدام ولم تفعله السلطة الحالية في العراق ؟ لقد مارست السلطة الحالية بالعراق كل ظلم الماضي وقسوته، ولكنها فاقت كل ذلك بارتكاب جرائم التطهير العراقي والمذهبي، فقتلت على الهوية وفجرت المساجد وحرقت المصاحف وعمت الفوضى كل العراق وأصبح الشر يعم كل أرجائه، ولايزال بعض الساسة يتصورون أنهم يحققون شيئا لذلك البلد المنكوب. لقد فقدت الدولة هيبتها، وفتكت الميليشيات بمقدرات البلد وأبنائه، وعاث المسلحون في العراق فسادا، وهدمت صوامع ومساجد وبيع وصلوات يذكر فيها اسم الله، وأصبحت الحياة جحيما، وهجرت عوائل وأسر من مساكنها بأمر الحكومة وعلمها، وسلبت حقوق وسرقت أموال، يحصل كل ذلك بسيارات الداخلية وآلياتها، ومارست مغاويرها كل أنواع القتل والتعذيب بشهادة العراقيين وتحت أنظارهم.
وإذا كان النظام السابق قد دمر مدينة حلبجة وقتل 148 من أبناء الدجيل ونفذ عمليات الأنفال ضد الأكراد خلال خمسة وثلاثين عاما ورفض العراقيون منه كل ذلك شيعة وسنة، فإن ما قامت به مغاوير الداخلية خلال الأشهر القليلة الماضية يفوق كل جرائم صدام وظلمه، وإذا كان صدام قد اعتقل معارضيه وعذبهم فإن ما تقوم به مغاوير الداخلية هو اعتقال جميع من يخالفهم الرأي وقتلهم وتصفيتهم بأساليب وحشية وإلقاء جثثهم بعد ساعات على قارعة الطريق أو في أماكن تجميع النفايات، حتى فقد المواطن العراقي تحت ظل هذا النظام الديمقراطي مجرد كرامته كبشر.
فشبابنا يقتل ونساؤنا ترتعد خوفا ومستقبل أطفالنا لا يعرفه أحد، وكل ذلك يجري باسم عصابات لا تخدم إلا المنتفعين منها ممن يعطون ولاءهم لجهات خارجية مشبوهة، وإذا كان العنف ضروريا فليكن ضد أعداء شعبنا وليس ضد أبناء وطننا.
الوضع في العراق اليوم عبارة عن قطعان مسعورة من الميليشيات المسلحة تتحرك في ظلام الليل وخلال ساعات منع التجوال كالضباع الجائعة وهي تبحث عن طريدة لها مهما كانت، إنسانا، بيتا من بيوت الله، محلا تجاريا تعتاش منه أسرة ليس لها من معيل غيره، أو بيتا لعائلة آمنة، مما دفع بالأزمة العراقية إلى مستوى من الخطورة بحيث أصبح الحديث عن نشوب حرب أهلية على نطاق واسع وشامل في البلاد حديثا رائجا ومتوقعا لدى الجميع، وكل بدأ يحشد ويحضر ويعبئ ما لديه من الرجال والسلاح، ولعل أسوأ ما في الوضع الحالي أن تلك الميليشيات مدعومة من جهات معروفة داخل الحكومة توفر لها الغطاء الأمني والقانوني.
وإذا كان الوضع تحت ظل النظام السابق يعاب بأنه لم يسمح للكفاءات والمختصين بأن يمارسوا أدوارهم في خدمة الوطن، فإن الوضع اليوم أكثر مأساوية وأشد وقعا على عامة المواطنين، فالظروف المعقدة التي مرت بالعراق بعد الاحتلال سمحت لرهط من الأشخاص ممن يفتقرون إلى أدنى المؤهلات القيادية، بينهم متخلفون، ولصوص، وقتلة، وعملاء، ليتصدروا واجهة المشهد السياسي الرسمي، ويفرضوا على الشعب العراقي كقيادات سياسية أو دينية ويصبحوا بفضل رعاية المحتل نماذج قيادية لهذه المرحلة السوداء من تاريخ العراق المعاصر، الأمر الذي مكّن المحتلين من توظيفهم بسهولة ويسر لصالح مشروعهم السياسي والاقتصادي والعسكري، ومن ثم تهيئة مستلزمات فرض الهيمنة والسيطرة من خلالهم على مقدرات وثروات العراق، مقابل الاحتفاظ بهم في مواقعهم السلطوية.
لا أريد هنا أن أتحدث عن الاحتلال الأمريكي للعراق، فهو مرفوض من الغالبية العظمى من العراقيين، سواء الذين كانوا مؤيدين للنظام السابق أم كانوا معارضين له، وهو ما أظهرته حتى استطلاعات الرأي الغربية والأمريكية، بل عن الأشخاص والقوى الذين يقولون إنهم باتوا يتولون شؤون العراق، ويتخذون القرارات السياسية والأمنية فيه. فالتجارب الصعبة التي مرت بها المدن والقرى العراقية في ظل النظام الحالي المتعاون مع المحتل تظهر بوضوح أن السلطة العراقية تتبع أسلوب العقاب الجماعي، ردا على أي تجاوز أو هجوم أو عمل عنف يرتكبه فرد أو مجموعة أفراد. والتبرير الأساسي الذي تقدمه السلطة العراقية هو أن هذه الحملات العسكرية والأمنية التي تقتص من المدنيين الأبرياء في غالب الأحيان هدفها حفظ الأمن والسيطرة على الأوضاع. بمعنى أنه لا مانع لدى السلطة اليوم من قتل المدنيين الذين لا علاقة لهم ولا مانع من العقوبات الجماعية والتدمير الجماعي في سبيل الأمن وضمان الحكم لهم إذاً ما الفرق بين هذه التبريرات والتبريرات التي كان يقدمها النظام السابق الذي كانوا يعترضون عليه ويعيبون سلوكه؟ المنطق نفسه الذي استخدمه في هذا المجال النظام السابق تستخدمه السلطات الحالية بشكل أشد ضراوة وأكثر وحشية.
ما عسى السلطة الحالية في العراق أن تقول أمام الانتهاكات الوحشية والخطيرة لحقوق الإنسان من قبل مغاوير الداخلية والميليشيات المتعاونة معها؟ فهذا أحد شهود العيان ومن جهته الرسمية يعلن انتهاكات خطيرة لا يمكن تحملها، فمدير مشرحة بغداد الدكتور فائق بكر يهرب من العراق خوفا على حياته بعد كتابته تقارير تؤكد أنّ أكثر من 7.000 شخص قتلوا من قبل فرق الموت في الأشهر الأخيرة، كما كشف ذلك الرئيس المستقيل لمكتب حقوق الإنسان للأمم المتّحدة في العراق. علما بأن الأغلبية العظمى للجثث ظهرت عليها علامات إعدام عاجل والكثيرين ربطت أيديهم وراء ظهورهم، وتظهر على البعض آثار التعذيب مع كسور في مفاصل السيقان والأذرع عملت بالمثاقب الكهربائية التي أصبحت الصيغة الوحشية والبربرية في جهاد الميليشيات المسلحة، التي تنتمي إلى الأحزاب المشاركة في الحكومة ضد أبناء وطنهم من العراقيين الشرفاء الوطنيين الذين يرفضون الاحتلال والتعامل معه، كما أفاد بايس جون مسؤول الأمم المتّحدة المالطي أن العديد من حالات القتل قد نفّذت من قبل الميليشيات الشيعية المرتبطة بوزارة الداخلية والمدارة من قبل بيان جبر الشخصية البارزة في المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق.
وقال السّيد بايس: إن السجلات المدعمة بالصور جاءت من معهد بغداد للطب العدلي وسلمت إلى الأمم المتّحدة، وإن الكثير من تلك الجثث تحمل آثار التعذيب التي تقوم بها فرق الموت المكفولة من قبل الحكومة، وأضاف السّيد بايس أن مدير المشرحة تسلم تهديدات بالقتل بعد أن أبلغ عن جرائم القتل.
لقد عاش العراق خلال السنوات الماضية بين ظلمين كلاهما أشد من الآخر، ظلم النظام السابق الذي أوصل العراق إلى ما هو عليه الآن بفعل عدم حكمته وتعنته، وظلم السلطة الحاكمة اليوم التي أذاقت العراقيين ويلات العذاب والتنكيل بتعاونها مع المحتل مرة، وبتنفيذها أجندات خارجية قادمة من إيران مرة أخرى، وبمحاولة عزل العراق عن محيطه العربي مرة ثالثة، وفي ظل هذه الحالة المأساوية التي يمر بها شعب العراق لا بد للأمة أن تأخذ دورها وتتحمل مسؤولياتها وتدافع عن هذا البلد الذي أعطى الكثير والكثير للأمة، وهو بحاجة إليها اليوم للوقوف معه والدفاع عن استقلاله وحماية شعبه من فرق الموت التي تنفذ أجندة الأعداء، وحماية مساجده ودور العبادة فيه قبل أن يأخذه الأعداء ويغيروا وجهه الحضاري العربي المسلم، فهولاكو اليوم أشد وأقسى من هولاكو الأمس.