ارجو التثبيت لشمول الموضوع وعموم الفائدة
الحمد لله مدبر الشهور والأعوام , ومصرف الليالي والأيام ،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجلال والإكرام ،
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للأنام ،
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأئمة الأعلام .
أما بعد أيها الأحبة الكرام .
طلائـع الهجـرة
وبعد أن تمت بيعة العقبة الثانية ونجح الإسلام في تأسيس وطن له وسط صحراء تموج
بالكفر والجهالة ـ وهو أخطر كسب حصل عليه الإسلام منذ بداية دعوته ـ أذن رسول الله
صلى الله عليه وسلم للمسلمين بالهجرة إلى هذا الوطن.
ولم يكن معنى الهجرة إلا إهدار المصالح، والتضحية بالأموال، والنجاة بالشخص فحسب،
مع الإشعار بأنه مستباح منهوب قد يهلك في أوائل الطريق أو نهايتها،
وبأنه يسير نحو مستقبل مبهم، لا يدرى ما يتمخض عنه من قلاقل وأحزان.
وبدأ المسلمون يهاجرون وهم يعرفون كل ذلك،
وأخذالمشركون يحولون بينهم وبين خروجهم؛
لما كانوا يحسون به من الخطر، وهاك نماذج من ذلك :
1 ـ كان من أول المهاجرين أبو سلمة ـ
هاجر قبل العقبة الكبرى بسنة على ما قاله ابن إسحاق ـ وزوجته وابنه،
فلما أجمع على الخروج قال له أصهاره:
هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتناهذه؟ علام نتركك تسير بها في البلاد؟
فأخذوا منه زوجته، وغضب آل أبي سلمة لرجلهم، فقالوا:
لا نترك ابننا معها إذ نزعتموها من صاحبنا،
وتجاذبواالغلام بينهم فخلعوا يده، وذهبوا به. وانطلق أبو سلمة وحده إلى المدينة.
وكانت أم سلمة رضي الله عنها و بعد ذهاب زوجها وضياع ابنها
تخرج كل غداة بالأبطح تبكى
حتى تمسى، ومضى على ذلك نحو سنة، فرق لها أحد ذويها وقال:
ألا تخرجون هذه المسكينة؟
فرقتم بينها وبين زوجها وولدها، فقالوا لها:الحقى بزوجك إن شئت،
فاسترجعت ابنها من عصبته، وخرجت تريد المدينة ـ
رحلة تبلغ حوالى خمسمائة كيلو متر تمر بين شواهق الجبال ومهالك الأودية ـ
وليس معها أحد من خلق الله.
حتى إذا كانت بالتَّنْعِيم لقيها عثمان بن طلحة بن أبي طلحة،
وبعد أن عرف حالها شيعها حتى أقدمها إلى المدينة، فلما نظر إلى قباء،
قال: زوجك في هذه القرية فادخليها على بركة الله، ثم انصرف راجعًا إلى مكة.
2 ـ وهاجر صُهَيْب بن سِنان الرومى
وذلك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أراد الهجرة قال له كفارقريش:
أتيتنا صعلوكًا حقيرًا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريدأن تخرج بمالك ونفسك؟
والله لا يكون ذلك. فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالى أتخلون سبيلى؟ قالوا: نعم،
قال: فأني قد جعلت لكم مالى، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
( ربح صهيب، ربح صهيب ) .
3ـ وتواعد عمر بن الخطاب، وعَيَّاش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل
موضعًا اسمه التَّنَاضُب فوق سَرِف يصبحون عنده، ثم يهاجرون إلى المدينة،
فاجتمع عمر وعياش، وحبس عنهما هشام.
ولما قدما المدينة ونزلا بقباء قدم أبو جهل وأخوه الحارث إلى عياش ـ وأم الثلاثة واحدة،
وهي أسماء بنت مُخَرِّبَة ـ فقالا له: إن أمك قد نذرت ألايمس رأسها مشط، ولا تستظل بشمس
حتى تراك، فَرَقَّ لها. فقال له عمر:يا عياش، إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك
فاحذرهم، فوالله لوآذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت،
فأبي عياش إلاالخروج معهما ليبر قسم أمه، فقال له عمر:
أما إذ قد فعلت ما فعلت فخذ ناقتى هذه، فإنها ناقة نجيبة ذلول، فالزم ظهرها،
فإن رابك من القوم ريب فانج عليها.
فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل: يابن أمي،
والله لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه؟ قال: بلى،
فأناخ وأناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه فأوثقاه وربطاه،
ثم دخلا به مكة نهارًا موثقًا، وقالا: يا أهل مكة،
هكذا فافعلوابسفهائكم، كما فعلنا بسفيهنا هذا.
هذه ثلاثة نماذج لما كان المشركون يفعلونه بمن يريد الهجرة إذا علموا ذلك.
ولكن على رغم ذلك خرج الناس أرسالًا يتبع بعضهم بعضًا.
وبعد شهرين وبضعة أيام من بيعة العقبة الكبرى لم يبق بمكة من المسلمين
إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعلى ـ أقاما بأمره لهما ـ
وإلا من احتبسه المشركون كرهًا، وقد أعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جهازه ينتظر
متى يؤمر بالخروج، وأعد أبو بكر جهازه.
روى البخاري عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين:
(أني أريت دار هجرتكم، ذات نخل بين لابَتَيْن) ـ وهما الحرتان ـ
فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة،
وتجهز أبو بكر قبل المدينة،
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على رِسْلِك، فأني أرجو أن يؤذن لي).
فقال له أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: (نعم)،فحبس أبو بكر نفسه
على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السَّمَر ـ
وهو الخَبَطُ ـ أربعة أشهر.
في دار الندوة [برلمان قريش]
ولما رأى المشركون أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تجهزواوخرجوا،
وحملوا وساقوا الذرارى والأطفال والأموال إلى الأوس والخزرج أصابتهم الكآبة والحزن،
وساورهم القلق والهم بشكل لم يسبق له مثيل، فقد تجسد أمامهم خطر حقيقى عظيم،
أخذ يهدد كيانهم الوثني والاقتصادي.
فقد كانوا يعلمون ما في شخصية محمد صلى الله عليه وسلم من غاية قوة التأثيرمع كمال
القيادة والإرشاد، وما في أصحابه من العزيمة والاستقامة والفداء في سبيله،
ثم ما في قبائل الأوس والخزرج من القوة والمنعة، وما في عقلاءهاتين القبيلتين من عواطف
السلم والصلاح، والتداعي إلى نبذ الأحقاد،ولاسيما بعد أن ذاقوا مرارة الحروب الأهلية
طيلة أعوام من الدهر.
كما كانوا يعرفون ما للمدينة من الموقع الاستراتيجي بالنسبة إلى المحجةا لتجارية التى تمر
بساحل البحر الأحمر من اليمن إلى الشام. وقد كان أهل مكة يتاجرون إلى الشام بقدر
ربع مليون دينار ذهب سنويًا، سوى ما كان لأهل الطائف وغيرها.
ومعلوم أن مدار هذه التجارة كان على استقرار الأمن في تلك الطريق.
فلا يخفي ما كان لقريش من الخطر البالغ في تمركز الدعوة الإسلامية في يثرب،
ومجابهة أهلها ضدهم.
شعر المشركون بتفاقم الخطر الذي كان يهدد كيانهم، فصاروا يبحثون عن أنجح الوسائل لدفع
هذا الخطر الذي مبعثه الوحيد هو حامل لواء دعوة الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي يوم الخميس 26 من شهر صفر سنة 14 من النبوة،الموافق 12 من شهر سبتمبر
سنة 622م ـ أي بعد شهرين ونصف تقريبًا من بيعة العقبة الكبرى ـ
عقد برلمان مكة [دار الندوة] في أوائل النهارأخطراجتماع له في تاريخه،
وتوافد إلى هذا الاجتماع جميع نواب القبائل القرشية؛ ليتدارسوا خطة حاسمة
تكفل القضاء سريعًا على حامل لواء الدعوة الإسلامية؛
وتقطع تيار نورها عن الوجود نهائيًا.
وكانت الوجوه البارزة في هذا الاجتماع الخطير من نواب قبائل قريش:
1 ـ أبو جهل بن هشام، عن قبيلة بني مخزوم.
2، 3، 4 ـ جبير بن مُطْعِم، وطُعَيْمَة بن عدى، والحارث بن عامر، عن بني نَوْفَل بن عبد مناف.
5، 6، 7ـ شيبة وعتبة ابنا ربيعة وأبو سفيان بن حرب، عن بني عبد شمس بن عبد مناف.
8 ـ النَّضْر بن الحارث، عن بني عبد الدار.
9، 10، 11ـ أبو البَخْتَرِى بن هشام، وزَمْعَة بن الأسود،
وحَكِيم بن حِزَام، عن بني أسد بن عبد العزى.
12، 13ـ نُبَيْه ومُنَبِّه ابنا الحجاج، عن بني سهم.
14ـ أمية بن خَلَف، عن بني جُمَح.
ولما جاءوا إلى دار الندوة حسب الميعاد، اعترضهم إبليس في هيئة شيخ جليل،عليه بَتٌّ له،
ووقف على الباب، فقالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد سمع بالذي اعدتم له
فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى ألا يعدمكم منه رأيًا ونصحًا. قالوا:
أجل، فادخل، فدخل معهم.
النقاش البرلماني والإجماع على قرار غاشم
بقتل النبي صلى الله عليه وسلم
وبعد أن تكامل الاجتماع بدأ عرض الاقتراحات والحلول، ودار النقاش طويلًا.
قال أبو الأسود:
نخرجه من بين أظهرنا وننفيه من بلادنا، ولا نبالي أين ذهب، ولا حيث وقع،
فقد أصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت.
قال الشيخ النجدى:
لا والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال
بما يأتىبه؟ والله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل على حى من العرب،
ثم يسير بهم إليكم ـ بعد أن يتابعوه ـ حتى يطأكم بهم في بلادكم،
ثم يفعل بكم ما أراد،دبروا فيه رأيًا غير هذا.
قال أبو البخترى:
احبسوه في الحديد وأغلقواعليه بابًا، ثم تربصوا به ما أصاب أمثاله من الشعراء
الذين كانوا قبله ـ زهيرًا والنابغة ـ ومن مضى منهم،
من هذا الموت، حتى يصيبه ما أصابهم.
قال الشيخ النجدى:
لا والله ما هذا لكم برأي، والله لئن حبستموه ـ كما تقولون ـ ليخرجن أمره من وراء الباب
الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه، فلأوشكوا أن يثبوا عليكم، فينزعوه من أيديكم،
ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا لكم برأي، فانظروا في غيره.
وبعد أن رفض البرلمان هذين الاقتراحين، قدم إليه اقتراح آثم وافق عليه جميع أعضائه،
تقدم به كبير مجرمى مكة أبو جهل بن هشام.
قال أبو جهل:
والله إن لى فيه رأيًا ما أراكم وقعتم عليه بعد. قالوا: وما هو يا أباالحكم؟ قال:
أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابًا جليدًا نَسِيبا وَسِيطًا فينا،
ثم نعطى كل فتى منهم سيفًا صارمًا، ثم يعمدوا إليه، فيضربوه بها ضربة رجل واحد،
فيقتلوه، فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعًا،
فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعًا، فرضوا منابالعَقْل، فعقلناه لهم.
قال الشيخ النجدى:
القول ما قال الرجل، هذا الرأي الذي لا رأي غيره.
ووافق برلمان مكة على هذا الاقتراح الآثم بالإجماع، ورجع النواب إلى بيوتهم
وقد صمموا على تنفيذ هذا القرار فورًا.
هجـرة النبـي صلى الله عليه وسلم
بين تدبير قريش وتدبير الله سبحانه وتعالى
من طبيعة مثل هذا الاجتماع السرية للغاية، وألا يبدو على السطح الظاهر
أي حركة تخالف اليوميات، وتغاير العادات المستمرة، حتى لا يشم أحد رائحة التآمر والخطر،
ولا يدور في خلد أحد أن هناك غموضًا ينبئ عن الشر، وكان هذا مكرًا من قريش،
ولكنهم ماكروا بذلك الله سبحانه وتعالى، فخيبهم من حيث لايشعرون.
فقد نزل جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم بوحى من ربه
تبارك وتعالى فأخبره بمؤامرة قريش، وأن الله قد أذن له في الخروج،
وحدد له وقت الهجرة، وبين له خطة الرد على قريش فقال:
لا تبت هذه الليلةعلى فراشك الذي كنت تبيت عليه.
وذهب النبي صلى الله عليه وسلم في الهاجرة ـ حين يستريح الناس في بيوتهم ـ
إلى أبي بكر رضي الله عنه ليبرم معه مراحل الهجرة،
قالت عائشة رضي الله عنها:
بينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحرالظهيرة، قال قائل لأبي بكر:
هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعًا، في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر:
فداء له أبي وأمى، والله ماجاء به في هذه الساعة إلا أمر.
قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.، فاستأذن،فأذن له فدخل، فقال النبي صلى الله
عليه وسلم لأبي بكر: (أخرج مَنْ عندك). فقال أبوبكر: إنما هم أهلك، بأبي أنت يا رسول الله.
قال: (فأني قد أذن لى في الخروج)، فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم).
ثم أبرم معه خطة الهجرة، ورجع إلى بيته ينتظر مجىء الليل. وقد استمر في أعماله اليومية
حسب المعتاد حتى لم يشعر أحد بأنه يستعد للهجرة، أو لأي أمرآخر اتقاء مما قررته قريش.
تطويق منزل الرسول صلى الله عليه وسلم
أما أكابر مجرمي قريش فقضوا نهارهم في الإعداد سرا لتنفيذ الخطة المرسومة
التى أبرمها برلمان مكة [دار الندوة] صباحًا،
واختير لذلك أحد عشررئيسًا من هؤلاء الأكابر،
وهم:
1ـ أبو جهل بن هشام.
2ـ الحَكَم بن أبي العاص.
3ـ عُقْبَة بن أبي مُعَيْط.
4ـ النَّضْر بن الحارث.
5ـ أُمية بن خَلَف.
6ـ زَمْعَة بن الأسود.
7ـ طُعَيْمة بن عَدِىّ.
8 ـ أبو لهب.
9ـ أبي بن خلف.
10ـ نُبَيْه بن الحجاج.
11ـ أخوه مُنَبِّه بن الحجاج.
وكان من عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينام في أوائل الليل بعدصلاة العشاء،
ويخرج بعد نصف الليل إلى المسجد الحرام، يصلي فيه قيام الليل،فأمر عليًا رضي الله عنه
تلك الليلة أن يضطجع على فراشه، ويتسجى ببرده الحضرمي الأخضر،
وأخبره أنه لا يصيبه مكروه.
فلما كانت عتمة من الليل وساد الهدوء، ونام عامة الناس جاء المذكورون إلى بيته
صلى الله عليه وسلم سرًا، واجتمعوا على بابه يرصدونه، وهم يظنونه نائمًا حتى إذا قام
وخرج وثبوا عليه، ونفذوا ما قرروا فيه.
وكانوا على ثقة ويقين جازم من نجاح هذه المؤامرة الدنية، حتى وقف أبو جهل
وقفة الزهو والخيلاء، وقال مخاطبًا لأصحابه المطوقين في سخرية واستهزاء:
إن محمدًا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم،
ثم بعثتم من بعد موتكم، فجعلت لكم جنان كجنان الأردن، وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح،
ثم بعثتم من بعد موتكم،ثم جعلت لكم نار تحرقون فيها.
وقد كان ميعاد تنفيذ تلك المؤامرة بعد منتصف الليل في وقت خروجه صلى الله عليه وسلم
من البيت، فباتوا متيقظين ينتظرون ساعة الصفر، ولكن الله غالب على أمره،
بيده ملكوت السموات والأرض، يفعل ما يشاء، وهو يجير ولا يجـارعليه،
فقـد فعـل مـا خاطب به الرسول صلى الله عليه وسلم فيما بعد:
{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْلِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ
وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُاللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } .
[الأنفال:30].
الرسول صلى الله عليه وسلم يغادر بيته
وقد فشلت قريش في خطتهم فشلًا ذريعًا مع غاية التيقظ والتنبه؛ إذ خرج رسول الله
صلى الله عليه وسلم من البيت، واخترق صفوفهم، وأخذ حفنة من البطحاء
فجعل يذره على رءوسهم، وقد أخذ الله أبصارهم عنه فلا يرونه،
وهو يتلو:
{وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} .
[يس:9].
فلم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابًا، ومضى إلى بيت أبي بكر،فخرجا من خوخة
في دار أبي بكر ليلًا حتى لحقا بغار ثَوْر في اتجاه اليمن.
وبقى المحاصرون ينتظرون حلول ساعة الصفر، وقبيل حلولها تجلت لهم الخيبة والفشل،
فقد جاءهم رجل ممن لم يكن معهم، ورآهم ببابه فقال: ما تنتظرون؟ قالوا: محمدًا.
قال: خبتم وخسرتم، قد والله مر بكم، وذر على رءوسكم التراب، وانطلق لحاجته،
قالوا: والله ما أبصرناه، وقاموا ينفضون التراب عن رءوسهم.
ولكنهم تطلعوا من صير الباب فرأوا عليًا، فقالوا: والله إن هذا لمحمد نائمًا، عليه برده،
فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا. وقام علىٌّ عن الفراش،فسقط في أيديهم،
وسألوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لا علم لي به.
من الدار إلى الغار
غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته في ليلة 27 من شهر صفر سنة 14 من النبوة،
الموافق 12/13 سبتمبر سنة 622م. وأتى إلى دار رفيقه ـ وأمنّ الناس عليه في صحبته وماله ـ
أبي بكر رضي الله عنه. ثم غادر منزل الأخيرمن باب خلفي؛
ليخرجا من مكة على عجل وقبل أن يطلع الفجر.
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن قريشًا سَتَجِدُّ في الطلب، وأن الطريق الذي
ستتجه إليه الأنظار لأول وهلة هو طريق المدينة الرئيسى المتجه شمالًا،
فسلك الطريق الذي يضاده تمامًا، وهو الطريق الواقع جنوب مكة،والمتجه نحو اليمن،
سلك هذا الطريق نحو خمسة أميال حتى بلغ إلى جبل يعرف بجبل ثَوْر وهو جبل شامخ،
وَعِر الطريق، صعب المرتقى، ذو أحجار كثيرة،فحفيت قدما رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وقيل: بل كان يمشى في الطريق على أطراف قدميه كى يخفي أثره فحفيت قدماه،
وأيا ما كان فقد حمله أبو بكرحين بلغ إلى الجبل، وطفق يشتد به حتى انتهي به إلى غار
في قمة الجبل عرف في التاريخ بغار ثور.
تعليق