اعلان

Collapse
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الهجرة النبوية الشريفة والدروس والعبر المستفادة منها ارجو التثبيت

Collapse
X
 
  • تصنيف
  • الوقت
  • عرض
Clear All
إضافات جديدة

  • الهجرة النبوية الشريفة والدروس والعبر المستفادة منها ارجو التثبيت

    الهجرة النبوية الشريفة والدروس والعبر المستفادة منها
    ارجو التثبيت لشمول الموضوع وعموم الفائدة

    الحمد لله مدبر الشهور والأعوام , ومصرف الليالي والأيام ،
    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجلال والإكرام ،
    وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للأنام ،
    صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأئمة الأعلام .
    أما بعد أيها الأحبة الكرام .


    طلائـع الهجـرة

    وبعد أن تمت بيعة العقبة الثانية ونجح الإسلام في تأسيس وطن له وسط صحراء تموج
    بالكفر والجهالة ـ وهو أخطر كسب حصل عليه الإسلام منذ بداية دعوته ـ
    أذن رسول الله
    صلى الله عليه وسلم للمسلمين بالهجرة إلى هذا الوطن‏.‏


    ولم يكن معنى الهجرة إلا إهدار المصالح، والتضحية بالأموال، والنجاة بالشخص فحسب،
    مع الإشعار بأنه مستباح منهوب قد يهلك في أوائل الطريق أو نهايتها،

    وبأنه يسير نحو مستقبل مبهم، لا يدرى ما يتمخض عنه من قلاقل وأحزان‏.‏

    وبدأ المسلمون يهاجرون وهم يعرفون كل ذلك،
    وأخذ
    المشركون يحولون بينهم وبين خروجهم؛
    لما كانوا يحسون به من الخطر، وهاك
    نماذج من ذلك ‏:

    1 ـ كان من أول المهاجرين أبو سلمة ـ

    هاجر قبل العقبة الكبرى بسنة على ما قاله ابن إسحاق ـ وزوجته وابنه،
    فلما
    أجمع على الخروج قال له أصهاره‏:‏
    هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا
    هذه‏؟‏ علام نتركك تسير بها في البلاد‏؟‏
    فأخذوا منه زوجته، وغضب آل أبي
    سلمة لرجلهم، فقالوا‏:‏
    لا نترك ابننا معها إذ نزعتموها من صاحبنا،
    وتجاذبوا
    الغلام بينهم فخلعوا يده، وذهبوا به‏.‏ وانطلق أبو سلمة وحده إلى المدينة‏.‏

    وكانت أم سلمة رضي الله عنها و بعد ذهاب زوجها وضياع ابنها
    تخرج كل غداة
    بالأبطح تبكى
    حتى تمسى، ومضى على ذلك نحو سنة، فرق لها أحد ذويها وقال‏:‏

    ألا تخرجون هذه المسكينة‏؟‏
    فرقتم بينها وبين زوجها وولدها، فقالوا لها‏:‏
    الحقى بزوجك إن شئت،
    فاسترجعت ابنها من عصبته، وخرجت تريد المدينة ـ
    رحلة
    تبلغ حوالى خمسمائة كيلو متر تمر بين شواهق الجبال ومهالك الأودية ـ
    وليس
    معها أحد من خلق الله‏.‏
    حتى إذا كانت بالتَّنْعِيم لقيها عثمان بن طلحة بن
    أبي طلحة،
    وبعد أن عرف حالها شيعها حتى أقدمها إلى المدينة، فلما نظر إلى
    قباء،
    قال‏:‏ زوجك في هذه القرية فادخليها على بركة الله، ثم انصرف راجعًا
    إلى مكة‏.‏

    2 ـ وهاجر صُهَيْب بن سِنان الرومى

    وذلك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أراد الهجرة قال له كفارقريش‏:‏
    أتيتنا صعلوكًا حقيرًا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد
    أن تخرج بمالك ونفسك‏؟‏
    والله لا يكون ذلك‏.‏ فقال لهم صهيب‏:‏ أرأيتم إن
    جعلت لكم مالى أتخلون سبيلى‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم،
    قال‏:‏ فأني قد جعلت لكم
    مالى، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏
    ( ‏ربح صهيب، ربح صهيب ‏)‏‏ .‏

    3ـ وتواعد عمر بن الخطاب، وعَيَّاش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل

    موضعًا اسمه التَّنَاضُب فوق سَرِف يصبحون عنده، ثم يهاجرون إلى المدينة،
    فاجتمع عمر وعياش، وحبس عنهما هشام‏.‏



    ولما قدما المدينة ونزلا بقباء قدم أبو جهل وأخوه الحارث إلى عياش ـ وأم الثلاثة واحدة،
    وهي أسماء بنت مُخَرِّبَة ـ فقالا له‏:‏ إن أمك قد نذرت ألا
    يمس رأسها مشط، ولا تستظل بشمس
    حتى تراك، فَرَقَّ لها‏.‏ فقال له عمر‏:‏
    يا عياش، إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك
    فاحذرهم، فوالله لو
    آذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت،
    فأبي عياش إلا
    الخروج معهما ليبر قسم أمه، فقال له عمر‏:‏
    أما إذ قد فعلت ما فعلت فخذ
    ناقتى هذه، فإنها ناقة نجيبة ذلول، فالزم ظهرها،
    فإن رابك من القوم ريب
    فانج عليها‏.‏

    فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل‏:‏ يابن أمي،
    والله لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه‏؟‏ قال‏:‏ بلى،
    فأناخ وأناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه فأوثقاه وربطاه،
    ثم دخلا به مكة نهارًا موثقًا، وقالا‏:‏ يا أهل مكة،
    هكذا فافعلوا
    بسفهائكم، كما فعلنا بسفيهنا هذا‏.‏

    هذه ثلاثة نماذج لما كان المشركون يفعلونه بمن يريد الهجرة إذا علموا ذلك‏.‏
    ولكن على رغم ذلك خرج الناس أرسالًا يتبع بعضهم بعضًا‏.‏
    وبعد شهرين
    وبضعة أيام من بيعة العقبة الكبرى لم يبق بمكة من المسلمين
    إلا رسول الله
    صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعلى ـ أقاما بأمره لهما ـ
    وإلا من احتبسه
    المشركون كرهًا، وقد أعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جهازه ينتظر
    متى
    يؤمر بالخروج، وأعد أبو بكر جهازه‏.‏

    روى البخاري عن عائشة قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين‏:‏
    ‏(‏أني أريت دار هجرتكم، ذات نخل بين
    لابَتَيْن‏)‏ ـ وهما الحرتان ـ
    فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة من
    كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة،
    وتجهز أبو بكر قبل المدينة،
    فقال له
    رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏على رِسْلِك، فأني أرجو أن يؤذن لي‏)‏‏.‏
    فقال له أبو بكر‏:‏ وهل ترجو ذلك بأبي أنت‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏،
    فحبس أبو بكر نفسه
    على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين
    كانتا عنده ورق السَّمَر ـ
    وهو الخَبَطُ ـ أربعة أشهر‏.‏



    في دار الندوة ‏[‏برلمان قريش‏]‏

    ولما رأى المشركون أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تجهزواوخرجوا،
    وحملوا وساقوا الذرارى والأطفال والأموال إلى الأوس والخزرج
    أصابتهم الكآبة والحزن،
    وساورهم القلق والهم بشكل لم يسبق له مثيل، فقد
    تجسد أمامهم خطر حقيقى عظيم،
    أخذ يهدد كيانهم الوثني والاقتصادي‏.‏


    فقد كانوا يعلمون ما في شخصية محمد صلى الله عليه وسلم من غاية قوة التأثيرمع كمال
    القيادة والإرشاد، وما في أصحابه من العزيمة والاستقامة والفداء
    في سبيله،
    ثم ما في قبائل الأوس والخزرج من القوة والمنعة، وما في عقلاء
    هاتين القبيلتين من عواطف
    السلم والصلاح، والتداعي إلى نبذ الأحقاد،
    ولاسيما بعد أن ذاقوا مرارة الحروب الأهلية
    طيلة أعوام من الدهر‏.‏


    كما كانوا يعرفون ما للمدينة من الموقع الاستراتيجي بالنسبة إلى المحجةا لتجارية التى تمر
    بساحل البحر الأحمر من اليمن إلى الشام‏.‏ وقد كان أهل
    مكة يتاجرون إلى الشام بقدر
    ربع مليون دينار ذهب سنويًا، سوى ما كان لأهل
    الطائف وغيرها‏.‏
    ومعلوم أن مدار هذه التجارة كان على استقرار الأمن في تلك
    الطريق‏.‏

    فلا يخفي ما كان لقريش من الخطر البالغ في تمركز الدعوة الإسلامية في يثرب،
    ومجابهة أهلها ضدهم‏.‏


    شعر المشركون بتفاقم الخطر الذي كان يهدد كيانهم، فصاروا يبحثون عن أنجح الوسائل لدفع
    هذا الخطر الذي مبعثه الوحيد هو حامل لواء دعوة الإسلام
    محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

    وفي يوم الخميس 26 من شهر صفر سنة 14 من النبوة،الموافق 12 من شهر سبتمبر
    سنة 622م ـ أي بعد شهرين ونصف تقريبًا من بيعة
    العقبة الكبرى ـ
    عقد برلمان مكة ‏[‏دار الندوة‏]‏ في أوائل النهارأخطر
    اجتماع له في تاريخه،
    وتوافد إلى هذا الاجتماع جميع نواب القبائل القرشية؛
    ليتدارسوا خطة حاسمة
    تكفل القضاء سريعًا على حامل لواء الدعوة الإسلامية؛

    وتقطع تيار نورها عن الوجود نهائيًا‏.‏
    وكانت الوجوه البارزة في هذا
    الاجتماع الخطير من نواب قبائل قريش‏:‏

    1 ـ أبو جهل بن هشام، عن قبيلة بني مخزوم‏.‏

    2، 3، 4 ـ جبير بن مُطْعِم، وطُعَيْمَة بن عدى، والحارث بن عامر، عن بني نَوْفَل بن عبد مناف‏.‏

    5، 6، 7ـ شيبة وعتبة ابنا ربيعة وأبو سفيان بن حرب، عن بني عبد شمس بن عبد مناف‏.‏

    8 ـ النَّضْر بن الحارث، عن بني عبد الدار‏.‏

    9، 10، 11ـ أبو البَخْتَرِى بن هشام، وزَمْعَة بن الأسود،
    وحَكِيم بن حِزَام، عن بني أسد بن عبد العزى‏.‏


    12، 13ـ نُبَيْه ومُنَبِّه ابنا الحجاج، عن بني سهم‏.‏

    14ـ أمية بن خَلَف، عن بني جُمَح‏.

    ولما جاءوا إلى دار الندوة حسب الميعاد، اعترضهم إبليس في هيئة شيخ جليل،عليه بَتٌّ له،
    ووقف على الباب، فقالوا‏:‏ من الشيخ‏؟‏ قال‏:‏ شيخ من أهل
    نجد سمع بالذي اعدتم له
    فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى ألا يعدمكم منه
    رأيًا ونصحًا‏.‏ قالوا‏:‏
    أجل، فادخل، فدخل معهم‏.‏



    النقاش البرلماني والإجماع على قرار غاشم
    بقتل النبي صلى الله عليه وسلم


    وبعد أن تكامل الاجتماع بدأ عرض الاقتراحات والحلول، ودار النقاش طويلًا‏.‏
    قال أبو الأسود‏:
    نخرجه من بين أظهرنا وننفيه من بلادنا، ولا نبالي أين ذهب، ولا حيث وقع،
    فقد أصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت‏.‏


    قال الشيخ النجدى‏:
    لا والله ما هذا لكم
    برأي، ألم تروا حسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال
    بما يأتى
    به‏؟‏ والله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل على حى من العرب،
    ثم يسير بهم
    إليكم ـ بعد أن يتابعوه ـ حتى يطأكم بهم في بلادكم،
    ثم يفعل بكم ما أراد،
    دبروا فيه رأيًا غير هذا‏.‏

    قال أبو البخترى‏:
    احبسوه في الحديد وأغلقواعليه بابًا، ثم تربصوا به ما أصاب أمثاله من الشعراء
    الذين كانوا قبله ـ
    زهيرًا والنابغة ـ ومن مضى منهم،
    من هذا الموت، حتى يصيبه ما أصابهم‏.‏


    قال الشيخ النجدى‏:
    لا والله ما هذا لكم
    برأي، والله لئن حبستموه ـ كما تقولون ـ ليخرجن أمره من وراء الباب
    الذي
    أغلقتم دونه إلى أصحابه، فلأوشكوا أن يثبوا عليكم، فينزعوه من أيديكم،
    ثم
    يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا لكم برأي، فانظروا في غيره‏.‏

    وبعد أن رفض البرلمان هذين الاقتراحين، قدم إليه اقتراح آثم وافق عليه جميع أعضائه،
    تقدم به كبير مجرمى مكة أبو جهل بن هشام‏.‏

    قال أبو جهل‏:‏
    والله إن لى فيه رأيًا ما أراكم وقعتم عليه بعد‏.‏ قالوا‏:‏ وما هو يا أباالحكم‏؟‏ قال‏:‏
    أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابًا جليدًا نَسِيبا
    وَسِيطًا فينا،
    ثم نعطى كل فتى منهم سيفًا صارمًا، ثم يعمدوا إليه، فيضربوه
    بها ضربة رجل واحد،
    فيقتلوه، فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه
    في القبائل جميعًا،
    فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعًا، فرضوا منا
    بالعَقْل، فعقلناه لهم‏.‏

    قال الشيخ النجدى‏:
    القول ما قال الرجل، هذا الرأي الذي لا رأي غيره‏.‏

    ووافق برلمان مكة على هذا الاقتراح الآثم بالإجماع، ورجع النواب إلى بيوتهم
    وقد صمموا على تنفيذ هذا القرار فورًا‏.‏



    هجـرة النبـي صلى الله عليه وسلم
    بين تدبير قريش وتدبير الله سبحانه وتعالى


    من طبيعة مثل هذا الاجتماع السرية للغاية، وألا يبدو على السطح الظاهر
    أي
    حركة تخالف اليوميات، وتغاير العادات المستمرة، حتى لا يشم أحد رائحة التآمر والخطر،
    ولا يدور في خلد أحد أن هناك غموضًا ينبئ عن الشر، وكان هذا
    مكرًا من قريش،
    ولكنهم ماكروا بذلك الله سبحانه وتعالى، فخيبهم من حيث لا
    يشعرون‏.‏
    فقد نزل جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم بوحى من
    ربه
    تبارك وتعالى فأخبره بمؤامرة قريش، وأن الله قد أذن له في الخروج،

    وحدد له وقت الهجرة، وبين له خطة الرد على قريش فقال‏:‏
    لا تبت هذه الليلة
    على فراشك الذي كنت تبيت عليه‏.‏

    وذهب النبي صلى الله عليه وسلم في الهاجرة ـ حين يستريح الناس في بيوتهم ـ
    إلى أبي بكر رضي الله عنه ليبرم معه مراحل الهجرة،


    قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏
    بينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحر
    الظهيرة، قال قائل لأبي بكر‏:‏
    هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعًا،
    في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر‏:‏
    فداء له أبي وأمى، والله ما
    جاء به في هذه الساعة إلا أمر‏.‏

    قالت‏:‏ فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏، فاستأذن،فأذن له فدخل، فقال النبي صلى الله
    عليه وسلم لأبي بكر‏:‏ ‏(‏أخرج مَنْ عندك‏)‏‏.‏ فقال أبو
    بكر‏:‏ إنما هم أهلك، بأبي أنت يا رسول الله‏.
    ‏ قال‏:‏ ‏(‏فأني قد أذن لى
    في الخروج‏)‏، فقال أبو بكر‏:‏ الصحبة بأبي أنت يا رسول الله‏؟‏
    قال رسول
    الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏‏.‏

    ثم أبرم معه خطة الهجرة، ورجع إلى بيته ينتظر مجىء الليل‏.‏ وقد استمر في أعماله اليومية
    حسب المعتاد حتى لم يشعر أحد بأنه يستعد للهجرة، أو لأي أمر
    آخر اتقاء مما قررته قريش‏.‏


    تطويق منزل الرسول صلى الله عليه وسلم

    أما أكابر مجرمي قريش فقضوا نهارهم في الإعداد سرا لتنفيذ الخطة المرسومة
    التى أبرمها برلمان مكة ‏[‏دار الندوة‏]‏ صباحًا،
    واختير لذلك أحد عشر
    رئيسًا من هؤلاء الأكابر،

    وهم‏:‏


    1ـ أبو جهل بن هشام‏.‏

    2ـ الحَكَم بن أبي العاص‏.‏

    3ـ عُقْبَة بن أبي مُعَيْط‏.‏

    4ـ النَّضْر بن الحارث‏.‏

    5ـ أُمية بن خَلَف‏.‏

    6ـ زَمْعَة بن الأسود‏.‏

    7ـ طُعَيْمة بن عَدِىّ‏.‏

    8 ـ أبو لهب‏.‏

    9ـ أبي بن خلف‏.‏

    10ـ نُبَيْه بن الحجاج‏.‏

    11ـ أخوه مُنَبِّه بن الحجاج‏.‏

    وكان من عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينام في أوائل الليل بعدصلاة العشاء،
    ويخرج بعد نصف الليل إلى المسجد الحرام، يصلي فيه قيام الليل،
    فأمر عليًا رضي الله عنه
    تلك الليلة أن يضطجع على فراشه، ويتسجى ببرده
    الحضرمي الأخضر،
    وأخبره أنه لا يصيبه مكروه‏.‏


    فلما كانت عتمة من الليل وساد الهدوء، ونام عامة الناس جاء المذكورون إلى بيته
    صلى الله عليه وسلم سرًا، واجتمعوا على بابه يرصدونه، وهم يظنونه
    نائمًا حتى إذا قام
    وخرج وثبوا عليه، ونفذوا ما قرروا فيه‏.‏


    وكانوا على ثقة ويقين جازم من نجاح هذه المؤامرة الدنية، حتى وقف أبو جهل
    وقفة الزهو والخيلاء، وقال مخاطبًا لأصحابه المطوقين في سخرية واستهزاء‏:‏
    إن محمدًا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم،
    ثم
    بعثتم من بعد موتكم، فجعلت لكم جنان كجنان الأردن، وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح،
    ثم بعثتم من بعد موتكم،ثم جعلت لكم نار تحرقون فيها‏.‏


    وقد كان ميعاد تنفيذ تلك المؤامرة بعد منتصف الليل في وقت خروجه صلى الله عليه وسلم
    من البيت، فباتوا متيقظين ينتظرون ساعة الصفر، ولكن الله غالب
    على أمره،
    بيده ملكوت السموات والأرض، يفعل ما يشاء، وهو يجير ولا يجـار
    عليه،
    فقـد فعـل مـا خاطب به الرسول صلى الله عليه وسلم فيما بعد‏:‏

    ‏{ ‏وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْلِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ
    وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ
    اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ‏ } .
    ‏[‏الأنفال‏:‏30]‏‏.‏


    الرسول صلى الله عليه وسلم يغادر بيته

    وقد فشلت قريش في خطتهم فشلًا ذريعًا مع غاية التيقظ والتنبه؛ إذ خرج رسول الله
    صلى الله عليه وسلم من البيت، واخترق صفوفهم، وأخذ حفنة من البطحاء

    فجعل يذره على رءوسهم، وقد أخذ الله أبصارهم عنه فلا يرونه،
    وهو يتلو‏:‏

    ‏{‏وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ‏}‏ .
    [‏يس‏:‏9‏]‏‏.‏

    فلم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابًا، ومضى إلى بيت أبي بكر،فخرجا من خوخة
    في دار أبي بكر ليلًا حتى لحقا بغار ثَوْر في اتجاه اليمن‏.‏


    وبقى المحاصرون ينتظرون حلول ساعة الصفر، وقبيل حلولها تجلت لهم الخيبة والفشل،
    فقد جاءهم رجل ممن لم يكن معهم، ورآهم ببابه فقال‏:‏ ما تنتظرون‏؟‏
    قالوا‏:‏ محمدًا‏.‏
    قال‏:‏ خبتم وخسرتم، قد والله مر بكم، وذر على رءوسكم
    التراب، وانطلق لحاجته،
    قالوا‏:‏ والله ما أبصرناه، وقاموا ينفضون التراب
    عن رءوسهم‏.‏

    ولكنهم تطلعوا من صير الباب فرأوا عليًا، فقالوا‏:‏ والله إن هذا لمحمد نائمًا، عليه برده،
    فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا‏.‏ وقام علىٌّ عن الفراش،
    فسقط في أيديهم،
    وسألوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ لا علم
    لي به‏.‏


    من الدار إلى الغار

    غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته في ليلة 27 من شهر صفر سنة 14 من النبوة،
    الموافق 12/13 سبتمبر سنة 622م‏.‏ وأتى إلى دار رفيقه ـ وأمنّ
    الناس عليه في صحبته وماله ـ
    أبي بكر رضي الله عنه‏.‏ ثم غادر منزل الأخير
    من باب خلفي؛
    ليخرجا من مكة على عجل وقبل أن يطلع الفجر‏.‏


    ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن قريشًا سَتَجِدُّ في الطلب، وأن الطريق الذي
    ستتجه إليه الأنظار لأول وهلة هو طريق المدينة الرئيسى المتجه
    شمالًا،
    فسلك الطريق الذي يضاده تمامًا، وهو الطريق الواقع جنوب مكة،
    والمتجه نحو اليمن،
    سلك هذا الطريق نحو خمسة أميال حتى بلغ إلى جبل يعرف
    بجبل ثَوْر وهو جبل شامخ،
    وَعِر الطريق، صعب المرتقى، ذو أحجار كثيرة،
    فحفيت قدما رسول الله صلى الله عليه وسلم،
    وقيل‏:‏ بل كان يمشى في الطريق
    على أطراف قدميه كى يخفي أثره فحفيت قدماه،
    وأيا ما كان فقد حمله أبو بكر
    حين بلغ إلى الجبل، وطفق يشتد به حتى انتهي به إلى غار
    في قمة الجبل عرف في
    التاريخ بغار ثور‏.‏

    يتبع


  • #2
    تابع
    إذ هما في الغار

    ولما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر‏:‏
    والله لا تدخله حتى أدخل قبلك، فإن كان فيه شيء أصابني دونك،
    فدخل فكسحه،ووجد في جانبه ثقبًا فشق إزاره وسدها به، وبقى منها اثنان فألقمهما رجليه،
    ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ادخل، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم،
    ووضع رأسه في حجره ونام، فلدغ أبو بكر في رجله من الجحر، ولم
    يتحرك مخافة أن ينتبه
    رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسقطت دموعه على وجه
    رسول الله صلى الله عليه وسلم،
    فقال‏:‏ ‏(‏ما لك يا أبا بكر‏؟‏‏)‏ قال‏:‏
    لدغت، فداك أبي وأمي، فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم،
    فذهب ما يجده‏.‏


    وكَمُنَا في الغار ثلاث ليال، ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد‏.‏ وكان عبد الله بن أبي بكر
    يبيت عندهما‏.‏ قالت
    عائشة‏:‏ وهو غلام شاب ثَقِف لَقِن، فيُدْلِج من عندهما بسَحَرٍ،
    فيصبح مع
    قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرًا يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما
    بخبر ذلك
    حين يختلط الظلام،
    و ‏[‏كان‏]‏ يرعى عليهما عامر بن فُهَيْرَة مولى أبي
    بكر مِنْحَة من غنم، فيريحها عليهما
    حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في
    رِسْل ـ وهو لبن مِنْحَتِهما ورَضيفِهما ـ
    حتى يَنْعِق بها عامر بن
    فُهَيْرَة بغَلَس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالى الثلاث،
    وكان عامر
    بن فهيرة يتبع بغنمه أثر عبد الله بن أبي بكر بعد ذهابه إلى مكة ليُعَفي عليه‏.

    أما قريش فقد جن جنونها حينما تأكد لديها إفلات رسول الله صلى الله عليه وسلم صباح ليلة
    تنفيذ المؤامرة‏.‏ فأول ما فعلوا بهذا الصدد أنهم ضربوا
    عليًا، وسحبوه إلى الكعبة، وحبسوه ساعة، علهم يظفرون بخبرهما‏.‏

    ولما لم يحصلوا من عليّ على جدوى جاءوا إلى بيت أبي بكر وقرعوا بابه، فخرجت إليهم
    أسماء بنت أبي بكر، فقالوا لها‏:‏ أين أبوك‏؟‏ قالت‏:‏ لا أدرى
    والله أين أبي‏؟‏
    فـرفع أبو جهل يـده ـ وكان فاحشًا خبيثًا ـ فلطم خـدها
    لطمـة طـرح منها قرطها‏.‏

    وقررت قريش في جلسة طارئة مستعجلة استخدام جميع الوسائل التي يمكن بها القبض
    على الرجلين، فوضعت جميع الطرق النافذة من مكة
    ‏[‏في جميع الجهات‏]‏
    تحت المراقبة المسلحة الشديدة، كما قررت إعطاء
    مكافأة ضخمة قدرها مائة ناقة
    بدل كل واحد منهما لمن يعيدهما إلى قريش حيين
    أو ميتين، كائنًا من كان‏.‏

    وحينئذ جدت الفرسان والمشاة وقصاص الأثر في الطلب، وانتشروا في الجبال والوديان،
    والوهاد والهضاب، لكن من دون جدوى وبغير عائدة‏.‏


    وقد وصل المطاردون إلى باب الغار، ولكن الله غالب على أمره،

    روى البخاري عن أنس عن أبي بكر قال‏:‏

    كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، فرفعت رأسى فإذا أنا بأقدام القوم، فقلت‏:‏
    يا نبي الله، لو أن بعضهم طأطأ بصره
    رآنا‏.‏ قال‏:‏ ‏
    (‏اسكت يا أبا بكر، اثنان، الله ثالثهما‏)‏،
    وفي لفظ‏:
    ‏(‏ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما‏)‏‏.

    وقد كانت معجزة أكرم الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد رجع المطاردون
    حين لم يبق بينه وبينهم إلا خطوات معدودة‏.‏



    في الطريق إلى المدينة

    وحين خمدت نار الطلب، وتوقفت أعمال دوريات التفتيش، وهدأت ثائرات قريش
    بعد
    استمرار المطاردة الحثيثة ثلاثة أيام بدون جدوى، تهيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم
    وصاحبه للخروج إلى المدينة‏.‏


    وكانا قد استأجرا عبد الله بن أُرَيْقِط الليثى، وكان هاديًا خِرِّيتًا ـ ماهرًا بالطريق ـ
    وكان على دين كفار قريش، وأمناه على ذلك، وسلما إليه
    راحلتيهما،
    وواعداه غار ثَوْر بعد ثلاث ليال براحلتيهما،


    فلما كانت ليلة الاثنين ـ غرة ربيع الأول سنة 1هـ / 16 سبتمبر سنة 622م ـ

    جاءهما عبد الله بن أريقط بالراحلتين، وكان قدقال أبو بكر للنبى صلى الله عليه وسلم
    عند مشاورته في البيت‏:‏
    بأبي أنت يا
    رسول الله، خذ إحدى راحلتى هاتين، وقرب إليه أفضلهما، فقال رسول الله
    صلى
    الله عليه وسلم بالثمن‏.‏ وأتتهما أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها بسُفْرَتِهما،
    ونسيت أن تجعل لها عِصَامًا، فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة،
    فإذا ليس لها عصام،
    فشقت نطاقها باثنين، فعلقت السفرة بواحد، وانتطقت
    بالآخ
    ر فسميت‏:‏ ذات النطاقين‏.‏


    ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه وارتحل معهماعامر بن فُهَيْرة،
    وأخذ بهم الدليل ـ عبد الله بن أريقط ـ على طريق
    السواحل‏.‏

    وأول ما سلك بهم بعد الخروج من الغار أنه أمعن في اتجاه الجنوب نحو اليمن،
    ثم اتجه غربًا نحو الساحل، حتى إذا وصل إلى طريق لم يألفه الناس،
    اتجه
    شمالًا على مقربة من شاطئ البحر الأحمر،
    وسلك طريقًا لم يكن يسلكه أحد إلا
    نادرًا‏.‏

    وقد ذكر ابن إسحاق المواضع التي مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الطريق،
    قال‏:‏ لما خرج بهما الدليل سلك بهما أسفل مكة، ثم مضى بهما على الساحل
    حتى عارض الطريق أسفل من عُسْفَان، ثم سلك بهما على أسفل أمَج،
    ثم استجاز
    بهما حتى عارض بهما الطريق
    بعد أن أجاز قُدَيْدًا، ثم أجاز بهما من مكانه
    ذلك فسلك بهما الْخَرَّار،

    ثم سلك بهما ثَنَّية الْمَرَّة، ثم سلك بهما لِقْفًا، ثم أجاز بهما مَدْلَجَة لِقْف،
    ثم استبطن بهما مَدْلَجة مِجَاج، ثم سلك بهما مَرْجِح
    مِجَاح،
    ثم تبطن بهما مَرْجِح من ذى الغُضْوَيْن، ثم بطن ذى كَشْر،
    ثم أخذ
    بهما على الْجَدَاجِد، ثم على الأجرد، ثم سلك بهما ذا سلم من بطن أعدا مَدْلَجَة تِعْهِنَ،
    ثم على العَبَابيد، ثم أجاز بهما الفَاجَة، ثم هبط
    بهما الْعَرْج، ثم سلك بهما ثنية العَائِر
    ـ عن يمين رَكُوبة ـ حتى هبط
    بهما بطن رِئْم، ثم قدم بهما على قُباء‏.‏


    وهاك بعض ما وقع في الطريق

    1ـ روى البخاري عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال‏:‏

    أسرينا ليلتنا ومن الغد حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق، لا يمر فيه أحد،
    فرفعت لنا صخرة طويلة، لها ظل لم تأت عليها الشمس، فنزلنا عنده،
    وسويت
    للنبي صلى الله عليه وسلم مكانًا بيدى، ينام عليه، وبسطت عليه فروة،وقلت‏:‏
    نم يا رسول الله، وأنا أنفض لك ما حولك، فنام،
    وخرجت أنفض ما حوله،
    فإذا أنا براع مقبل بغنمه إلى الصخرة، يريد منها مثل الذي أردنا،
    فقلت
    له‏:‏ لمن أنت يا غلام‏؟‏ فقال‏:‏ لرجل من أهل المدينة أو مكة‏.‏ قلت‏:‏أفي غنمك لبن‏؟‏
    قال‏:‏ نعم‏.‏ قلت‏:‏ أفتحلب‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ فأخذ شاة،
    فقلت‏:‏
    انفض الضرع من التراب والشعر والقَذَى،
    فحلب في قعب كُثْبة من لبن،
    ومعى إداوة حملتها للنبي صلى الله عليه وسلم،
    يرتوى منها، يشرب ويتوضأ،

    فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فكرهت أن أوقظه، فوافقته حين استيقظ، فصببت من الماء
    على اللبن حتى برد أسفله، فقلت‏:‏ اشرب يا رسول الله، فشرب حتى
    رضيت، ثم قال‏:‏ ‏
    (‏ألم يأن للرحيل‏؟‏‏)‏ قلت‏:‏ بلى، قال‏:‏ فارتحلنا‏.‏



    2ـ وكان من دأب أبي بكر رضي الله عنه أنه كان ردفًا للنبى صلى الله عليه وسلم،
    وكان شيخًا يعرف، ونبى الله صلى الله عليه
    وسلم شاب لا يعرف، فيلقى الرجل أبا بكر فيقول‏:‏
    من هذا الرجل الذي بين
    يديك‏؟‏ فيقول‏:‏ هذا الرجل يهدينى الطريق، فيحسب الحاسب أنه
    يعنى به
    الطريق، وإنما يعنى سبيل الخير‏.

    3ـ وفي اليوم الثاني أو الثالث مر بخيمتى أم مَعْبَد الخزاعية، وكان موقعهما بالمُشَلَّل من ناحية
    قُدَيْد على بعد نحو 130 كيلو مترًا من مكة،
    وكانت أم معبد امرأة برزة جلدة تحتبى بفناء الخيمة،
    ثم تطعم وتسقى من مر
    بها، فسألاها‏:‏ هل عندها شيء‏؟‏ فقالت‏:‏
    والله لو كان عندنا شيء ما
    أعوزكم، القِرَى والشاء عازب، وكانت سَنَةٌ شَهْباء‏.‏

    فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر الخيمة،
    فقال‏:‏ ‏(‏ما
    هذه الشاة يا أم معبد‏؟‏‏)‏
    قالت‏:‏ شاة خلفها الجهد عن الغنم، فقال‏:‏
    ‏(‏هل بها من لبن‏؟‏‏)‏ قالت‏:‏ هي أجهد من ذلك‏.‏
    فقال‏:‏ ‏(‏أتأذنين لى
    أن أحلبها‏؟‏‏)‏ قالت‏:‏ نعم بأبي وأمي إن رأيت بها حلبًا فاحلبها‏.‏
    فمسح
    رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ضرعها، وسمى الله ودعا، فتَفَاجَّتْ عليه ودَرَّتْ،
    فدعا بإناء لها يَرْبِض الرهط، فحلب فيه حتى علته الرغوة،
    فسقاها، فشربت حتى رويت،
    وسقى أصحابه حتى رووا، ثم شرب، وحلب فيه ثانيًا،
    حتى ملأ الإناء،
    ثم غادره عندها فارتحلوا‏.‏


    فما لبثت أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا يتساوكن هزلًا، فلما رأي اللبن عجب،
    فقال‏:‏ من أين لك هذا‏؟‏ والشاة
    عازب، ولا حلوبة في البيت‏؟‏ فقالت‏:‏
    لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك
    كان من حديثه كيت وكيت، ومن حاله كذا وكذا،
    قال‏:‏ أني والله أراه صاحب
    قريش الذي تطلبه، صِفِيه لى يا أم معبد،
    فوصفته بصفاته الكريمة وصفًا
    بديعًا كأن السامع ينظر إليه وهو أمامه ـ
    وسننقله في بيان صفاته صلى الله
    عليه وسلم في أواخر الكتاب ـ فقال أبو معبد‏:‏
    والله هذا صاحب قريش الذي
    ذكروا من أمره ما ذكروا، لقد هممت أن أصحبه،
    ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك
    سبيلًا‏.‏
    وأصبح صوت بمكة عاليًا يسمعونه ولا يرون القائل‏:‏


    جزى الله رب العرش خير جزائه ** رفيقين حَلاَّ خيمــتى أم مَعْبـَــدِ

    هـمـا نزلا بالبِـــرِّ وارتحــلا بــه ** وأفلح من أمسى رفيق محمـــد

    فيا لقُصَىّ مــا زَوَى الله عنكــم ** به من فعال لا يُحَاذى وسُــؤْدُد

    لِيَهْنِ بني كعـب مكــان فَتاتِهـــم ** ومقعدُهــا للمؤمنـين بَمْرصَـــد

    سَلُوا أختكم عن شاتهـا وإنائـهـا ** فإنكم إن تسألوا الشـاة تَشْـهَـــد


    قالت أسماء‏:

    ما درينا أين توجه رسول الله
    صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل من الجن من أسفل مكة
    فأنشد هذه الأبيات،
    والناس يتبعونه ويسمعون صوته ولا يرونه حتى خرج من أعلاها‏.‏
    قالت‏:‏ فلما
    سمعنا قوله عرفنا حيث توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم،
    وأن وجهه إلى
    المدينة‏.‏


    4 ـ وتبعهما في الطريق سُرَاقة بن مالك‏.

    ‏ قال سراقة‏:‏

    بينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومى بني مُدْلج، أقبل رجل
    منهم حتى قام علينا
    ونحن جلوس، فقال‏:‏ يا سراقة، أني رأيت آنفًا أسْوِدَة
    بالساحل، أراها محمدًا وأصحابه‏.‏
    قال سراقة‏:
    ‏ فعرفت أنهم هم، فقلت له‏:‏
    إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانًا وفلانًا انطلقوا بأعيننا،
    ثم لبثت في
    المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت، فأمرت جاريتى أن تخرج فرسى،
    وهي من وراء
    أكَمَة، فتحبسها عَلَىَّ، وأخذت رمحى، فخرجت به من ظهر البيت،
    فخَطَطْتُ
    بزُجِّهِ الأرض، وخَفَضْتُ عاليه، حتى أتيت فرسى فركبتها،
    فرَفَعْتُها
    تُقَرِّب بى حتى دنوت منهم، فعَثَرَتْ بى فرسى فخررت عنها، فقمت،
    فأهويت
    يدى إلى كنانتى، فاستخرجت منها الأزلام، فاستقسمت بها، أضُرُّهُمْ أم لا‏؟‏
    فخرج الذي أكره،

    فركبت فرسي ـ وعصيت الأزلام ـ تُقَرّبُ بي، حتى إذا سمعت قراءة
    رسول الله
    صلى الله عليه وسلم
    ـ وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات ـ سَاخَتْ يدا
    فرسى في الأرض حتى بلغتا الركبتين،
    فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت، فلم
    تَكَدْ تخرج يديها، فلما استوت قائمة
    إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء
    مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام، فخرج الذي أكره،
    فناديتهم بالأمان، فوقفوا،
    فركبت فرسى حتى جئتهم، ووقع في نفسى حين لقيت ما لقيت
    من الحبس عنهم أن
    سيظهر أمْرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له‏:‏
    إن قومك قد جعلوا
    فيك الدية،
    وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع
    فلم يَرْزَأني،
    ولم يسألأني إلا أن قال‏:‏ ‏(‏أَخْفِ عنا‏)‏، فسألته أن
    يكتب لى كتاب أمْنٍ،
    فأمر عامر بن فُهَيْرة،فكتب لى في رقعة من أدم،
    ثم
    مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

    وفي رواية عن أبي بكر قال‏:‏

    ارتحلنا والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا منهم أحد
    غير سراقة بن مالك بن جُعْشُم،
    على فرس له، فقلت‏:‏ هذا الطلب قد لحقنا يا
    رسول الله،
    فقال‏:
    {‏لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا‏}‏ ‏
    [‏التوبة‏:‏40‏]‏‏.‏


    ورجع سراقة فوجد الناس في الطلب فجعل يقول‏:‏ قد استبرأت لكم الخبر،
    قد
    كفيتم ما ها هنا‏.‏ وكان أول النهار جاهدًا عليهما، وآخره حارسًا لهما‏.‏


    5 ـ وفي الطريق لقى النبي صلى الله عليه وسلم بُريْدَة بن الحُصَيْب الأسلمى
    ومعه نحو ثمانين بيتًا، فأسلم وأسلموا،


    وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة فصلوا خلفه، وأقام بريدة بأرض قومه
    حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أُحُد‏.‏


    وعن عبد الله بن بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتفاءل ولا يتطير،
    فركب بريدة في سبعين راكبًا من أهل بيته من بني سهم، فلقى النبي صلى الله عليه وسلم،
    فقال له‏:‏ ‏(‏ممن أنت‏؟‏‏)‏
    قال‏:‏ من أسلم، فقال‏:‏ لأبي
    بكر‏:‏ سلمنا، ثم قال‏:‏ ‏(‏مِنْ بني مَنْ‏؟‏‏)‏ قال‏:‏
    من بني سهم‏.
    قال‏:‏ ‏(‏خرج سهمك‏)‏


    6ـ ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي أوْس تميم بن حَجَر أو بأبي تميم
    أوس بن حجر الأسلمى، بقحداوات بين الجُحْفَة
    وهَرْشَى ـ بالعرج ـ
    وكان قد أبطأ عليه بعض ظهره، فكان هو وأبو بكر على جمل
    واحد،
    فحمله أوس على فحل من إبله، وبعث معهما غلامًا له اسمه مسعود،

    وقال‏:‏ اسلك بهما حيث تعلم من محارم الطريق ولا تفارقهما،
    فسلك بهما
    الطريق حتى أدخلهما المدينة،
    ثم رد رسول الله صلى الله عليه وسلم مسعودًا
    إلى سيده، وأمره أن يأمر أوسًا
    أن يسم إبله في أعناقها قيد الفرس، وهو
    حلقتان، ومد بينهما مدًا، فهي سمتهم‏.‏
    ولما أتى المشركون يوم أحد أرسل أوس
    غلامه مسعود بن هُنَيْدَة من العَرْج على قدميه
    إلى رسول الله صلى الله
    عليه وسلم يخبره بهم‏.‏ ذكره ابن مَاكُولا عن الطبرى،
    وقد أسلم بعد قدوم
    رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان يسكن العرج‏.‏


    7ـ وفي الطريق ـ في بطن رِئْم ـ لقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير،
    وهو في ركب من المسلمين، كانوا تجارًا قافلين من الشام،
    فكسا الزبير رسول
    الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثيابًا بياضًا‏.‏


    النزول بقباء

    وفي يوم الاثنين 8 ربيع الأول سنة 14 من النبوة ـ وهي السنة الأولى من الهجرة ـ
    الموافق 23 سبتمبر سنة 622م نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم
    بقباء‏.‏

    قال عروة بن الزبير‏:

    سمع المسلمون بالمدينة
    بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة،
    فكانوا يغدون كل غداة إلى
    الحَرَّة، فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة،
    فانقلبوا يومًا بعد ما أطالوا
    انتظارهم،
    فلما أووا إلى بيوتهم أَوْفي رجل من يهود على أُطُم من آطامهم
    لأمر ينظر إليه،
    فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مُبَيَّضِين
    يزول بهم السراب،
    فلم يملك اليهودى أن قال بأعلى صوته‏:‏ يا معاشر العرب،
    هذا جدكم الذي تنتظرون،
    فثار المسلمون إلى السلاح‏.‏
    وتلقوا رسول الله صلى
    الله عليه وسلم بظهر الحرة‏.‏

    قال ابن القيم‏:‏

    وسُمِعت الوَجْبَةُ والتكبيرفي بني عمرو بن عوف، وكبر المسلمون فرحًا بقدومه،
    وخرجوا للقائه، فتلقوه
    وحيوه بتحية النبوة، فأحدقوا به مطيفين حوله،
    والسكينة تغشاه، والوحى ينزل
    عليه‏:‏ ‏
    {‏فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ
    الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ‏}‏‏ .
    [‏التحريم‏:‏4‏]‏‏.‏


    قال عروة بن الزبير‏:‏

    فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم
    في بني عمرو بن عوف، وذلك
    يوم الاثنين من شهر ربيع الأول‏.‏ فقام أبو بكر للناس،
    وجلس رسول الله صلى
    الله عليه وسلم صامتًا، فطفق من جاء من الأنصار
    ممن لم ير رسول الله صلى
    الله عليه وسلم يحىى ـ وفي نسخة‏:‏ يجىء ـ أبا بكر،
    حتى أصابت الشمس رسول
    الله صلى الله عليه وسلم،
    فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه،
    فعرف الناس
    رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك‏.‏

    وكانت المدينة كلها قد زحفت للاستقبال، وكان يومًا مشهودًا لم تشهد المدينة مثله في تاريخها،
    وقد رأي اليهود صدق بشارة حَبْقُوق النبي‏:‏ إن الله جاء
    من التيمان، والقدوس من جبال فاران‏.‏

    ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء على كلثوم بن الهدم،
    وقيل‏:‏ بل على سعد بن خَيْثَمَة، والأول أثبت‏.‏


    ومكث على بن أبي طالب رضي الله عنه بمكة ثلاثًا حتى أدى عن رسول الله
    صلى
    الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده للناس،
    ثم هاجر ماشيًا على قدميه
    حتى لحقهما بقباء،
    ونزل على كلثوم بن الهَدْم‏.‏


    وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء أربعة أيام‏:‏
    الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس‏.‏
    وأسس مسجد قباء وصلى فيه،
    وهو أول مسجد أسس على التقوى بعد النبوة،
    فلما كان اليوم الخامس ـ يوم
    الجمعة ـ ركب بأمر الله له، وأبو بكر ردفه،
    وأرسل إلى بني النجار ـ أخواله ـ

    فجاءوا متقلدين سيوفهم، فسار نحو المدينة وهم حوله،
    وأدركته الجمعة في بني
    سالم بن عوف، فجمع بهم في المسجد الذي في بطن الوادى،
    وكانوا مائة رجل‏.‏


    الدخول في المدينة

    ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم بعد الجمعة حتى دخل المدينة ـ
    ومن ذلك
    اليوم سميت بلدة يثرب بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم،
    ويعبر عنها
    بالمدينة مختصرًا ـ وكان يومًا مشهودًا أغر،
    فقد ارتجت البيوت والسكك
    بأصوات الحمد والتسبيح،
    وتغنت بنات الأنصار بغاية الفرح والسرور‏:‏


    طـلـع الــبـدر عـلـينا **مـن ثـنيــات الـوداع

    وجـب الشـكـر علـينا ** مـــا دعــا لـلـه داع

    أيـهـا المبــعــوث فـينا ** جـئـت بـالأمـر المطاع

    والأنصار وإن لم يكونوا أصحاب ثروات طائلة إلا أن كل واحد منهم كان يتمنى
    أن ينزل الرسول صلى الله عليه وسلم عليه، فكان لا يمر بدار من دور الأنصار
    إلا أخذوا خطام راحلته‏:‏
    هلم إلى العدد والعدة والسلاح والمنعة، فكان يقول
    لهم‏:‏
    (‏خلوا سبيلها فإنها مأمورة‏)‏،

    فلم تزل سائرة به حتى وصلت إلى موضع المسجد النبوى اليوم فبركت،
    ولم ينزل
    عنها حتى نهضت وسارت قليلًا، ثم التفتت ورجعت فبركت في موضعها الأول،
    فنزل
    عنها، وذلك في بني النجار ـ أخواله صلى الله عليه وسلم ـ
    وكان من توفيق
    الله لها، فإنه أحب أن ينزل على أخواله،
    يكرمهم بذلك، فجعل الناس يكلمون
    رسول الله صلى الله عليه وسلم في النزول عليهم،
    وبادر أبو أيوب الأنصارى
    إلى رحـله، فأدخله بيته،
    فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:
    (‏المرء مع رحله‏)‏،
    وجـاء أسعد بن زرارة فأخـذ بزمام راحلته، فكانت
    عنــده‏.‏

    وفي رواية أنس عند البخاري، قال نبى الله صلى الله عليه وسلم‏:‏
    (‏أي بيوت أهلنا أقرب‏؟‏‏)
    فقال أبو أيوب‏:‏ أنا يا رسول الله، هذه دارى، وهذا بأبي‏.‏ قال‏:‏
    (‏فانطلق فهيئ لنا مقيلًا‏)‏،
    قال‏:‏ قوما على بركة الله‏.‏


    وبعد أيام وصلت إليه زوجته سَوْدَة، وبنتاه فاطمة وأم كلثوم، وأسامة بن زيد، وأم أيمن،
    وخرج معهم عبد الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر، ومنهم عائشة،

    وبقيت زينب عند أبي العاص، لم يمكنها من الخروج حتى هاجرت بعد بدر‏.‏

    قالت عائشة‏:‏

    وقدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله، فكان بُطْحَان يجرى نَجْلًا، أي ماءً آجِنًا‏.‏

    وقالت‏:

    لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر وبلال، فدخلت عليهما فقلت‏:‏
    يا أبه كيف تجدك‏؟‏
    ويا بلال كيف تجدك‏؟‏ قالت‏:‏ فكان أبو بكر إذا أخذته الحُمَّى يقول‏:‏

    كل امرئ مُصَبَّحٌ في أهله ** والموت أدنى من شِرَاك نَعْلِه

    وكان بلال إذا أقلع عنه يرفع عقيرته ويقول‏:‏

    ألا ليت شِعْرِى هل أبيتَنَّ ليلة ** بـوَادٍ وحـولى إذْخِرٌ وجَلِيـــلُ

    وهل أردْن يومــًا ميـاه مِجَنَّة ** وهل يَبْدُوَنْ لى شامة وطَفِيلُ

    قالت عائشة‏:

    فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال‏:‏ ‏

    ( ‏اللهم العن شيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، وأمية بن خلف،
    كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء‏
    )‏‏.‏

    ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:

    ‏( ‏اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها، وبارك في صاعها ومدها،
    وانقل حماها فاجعلها بالجُحْفَة‏ )‏‏
    .

    وقد استجاب الله دعاءه صلى الله عليه وسلم، فأرى في المنام أن امرأة سوداء ثائرة الرأس
    خرجت من المدينة حتى نزلت
    بالمَهْيَعَة، وهي الجحفة‏.‏ وكان ذلك عبارة عن
    نقل وباء المدينة إلى
    الجحفة، وبذلك استراح المهاجرون
    عما كانوا يعانونه من شدة مناخ المدينة‏
    .

    المصدر
    كتاب الرحيق المختوم


    يتبع

    تعليق


    • #3
      تابع

      يتبع
      تلكم أيها الأحبة أحداث الهجرة ،
      وفيها من الدروس والعبر ما يضيق عنه المقام . فمنها :


      (1) درس في الهجرة :

      لقد أذن الله تعالى لنبيه وأصحابه بالهجرة لما ضاقت عليهم الأرض ،
      ومنعتهم قريش من إقامة دين الله
      .
      إن الهجرة بالمعنى الشرعي ليست مجرد الانتقال من بلد إلى آخر فحسب ،
      بل هي
      هجرة عامة عن كل ما نهى عنه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم،
      حتى يكون
      الدين كله لله .

      هجرة من الذنوب والسيئات ...
      هجرة من الشهوات والشبهات ...
      هجرة من مجالس المنكرات ..
      هجرة من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة
      .

      *****

      (2) الصبر واليقين طريق النصر والتمكين :

      فبعد سنوات من الاضطهاد والابتلاء قضاها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة
      يهيأ الله تعالى لهم طيبة الطيبة ، ويقذف الإيمان في قلوب
      الأنصار ،
      ليبدأ مسلسل النصر والتمكين لأهل الصبر واليقين


      إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوافِيالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَيَقُومُالْأَشْهَادُ


      إن طريق الدعوة إلى الله شاق محفوف بالمكاره والأذى .
      لكن من صبر ظفر .. ومن ثبت انتصر
      ..

      { والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون } .

      *****
      (3) درس في التوكل على الله
      والاعتصام بحبل الله
      :


      لقد كانت رحلة الهجرة مغامرة محفوفة بالمخاطر التي تطير لها الرؤوس .
      فالسيوف تحاصره عليه الصلاة والسلام في بيته وليس بينه وبينها إلا الباب ..
      والمطاردون يقفون أمامه على مدخل الغار ..
      وسراقة الفارس المدجج بالسلاح يدنو منه حتى يسمع قراءته ..
      والرسول صلى الله عليه وسلم في ظل هذه الظروف العصيبة متوكل على ربه واثق من نصره .
      فمهما اشتدت الكروب ومهما ادلهمت الخطوب يبقى المؤمن متوكلاً على ربه واثقاً بنصره لأوليائه .

      فالزم يديك بحبل الله معتصماً *** فإنه الركن إن خانتك أركان

      *****
      (4) درس في المعجزات الإلهية :

      هل رأيتم رجلاً أعزلاً محاصراً يخرج إلى المجرمين ويخترق صفوفهم فلا يرونه
      ويذر التراب على رؤوسهم ويمضي
      ..
      هل رأيتم عنكبوتاً تنسج خيوطها على باب الغار في ساعات معدودة ..
      هل رأيتم فريقاً من المجرمين يصعدون الجبل ويقفون على الباب
      فلا يطأطيء
      أحدهم رأسه لينظر في الغار ..
      هل رأيتم فرس سراقة تمشي في أرض صلبه فتسيخ
      قدماها
      في الأرض وكأنما هي تسير في الطين ..
      هل رأيتم شاة أم معبد الهزيلة
      يتفجر ضرعها باللبن .

      إن هذه المعجزات لهي من أعظم دلائل قدرة الله تعالى ،
      وإذا أراد الله نصر المؤمنين خرق القوانين ، وقلب الموازين


      { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } .

      *****
      (5) درس في الحب :

      وقد قال الحبيب صلى الله عليه وسلم :
      " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين " .

      إن هذا الحب هو الذي أبكى أبا بكر فرحاً بصحبته صلى الله عليه وسلم . . .

      إن هذا الحب هو الذي جعل أبا بكر يقاوم السم وهو يسري في جسده
      يوم أن لدغ في الغار لأن الحبيب ينام على رجله
      .

      إن هذا الحب هو الذي أرخص عند أبي بكر كل ماله ليؤثر به الحبيب
      صلى الله عليه وسلم على أهله ونفسه .

      إن هذا الحب هو الذي أخرج الأنصار من المدينة كل يوم في أيام حارة
      ينتظرون
      قدومه صلى الله عليه وسلم على أحر من الجمر .
      فأين هذا ممن يخالف أمر
      الحبيب صلى الله عليه وسلم
      ويهجر سنته ثم يزعم أنه يحبه !!!

      يا مدعي حب أحمد لا تخالفه *** فالحب ممنوع في دنيا المحبينا

      *****
      (6) درس في التضحية والفداء :

      لقد سطر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صفحات مشرقة من التضحية ،
      والمغامرة بالأنفس والأموال لنصرة هذا الدين ..
      لقد هاجروا لله ولم يتعللوا
      بالعيال ولا بقلة المال فلم يكن للدنيا بأسرها
      أدنى قيمة عندهم في مقابل
      أمر الله وأمر ورسوله صلى الله عليه وسلم .

      فيوم أن بات علي في فراشه صلى الله عليه وسلم وغطى رأسه
      كان يعلم أن سيوف
      الحاقدين تتبادر إلى ضرب صاحب الفراش ،
      ويوم أن قام آل أبي بكر عبدالله
      وأسماء وعائشة ومولاه عامر
      بهذه الأدوار البطولية كانوا يعلمون أن مجرد
      ا كتشافهم قد يودي بحياتهم .

      هكذا كان شباب الصحابة فأين شبابنا ..

      أين شبابنا الذين يضعون رؤوسهم على فرشهم
      ولا يضحون بدقائق يصلون فيها الفجر مع الجماعة
      .

      نعم .. لقد نام شبابنا عن الصلاة يوم أن نام علي مضحياً بروحه في سبيل الله ،
      فشتان بين النومتين
      .

      أين شبابنا الذين كلّت أناملهم من تقليب أجهزة القنوات ومواقع الشبكات .
      أين هذه الأنامل من أنامل أسماء وهي تشق نطاقها
      لتربط به سفرة النبي عليه
      الصلاة والسلام .
      ويوم القيامة ستشهد الأنامل على تضحية أسماء ،
      وستشهد على
      الظالمين بما كانوا يعملون .

      *****
      (7) درس في العبقرية والتخطيط
      واتخاذ الأسباب
      :


      لقد كان صلى الله عليه وسلم متوكلاً على ربه واثقاً بنصره يعلم أن الله كافيه وحسبه ،
      ومع هذا كله لم يكن
      صلى الله عليه وسلم بالمتهاون المتواكل
      الذي يأتي الأمور على غير وجهها .
      بل إنه أعد خطة محكمة ثم قام بتنفيذها
      بكل سرية وإتقان .

      فالقائد : محمد ، والمساعد : أبو بكر ، والفدائي : علي ، والتموين : أسماء ،
      والاستخبارات : عبد الله ، والتغطية وتعمية العدو
      : عامر ،
      ودليل الرحلة : عبدالله بن أريقط ، والمكان المؤقت : غار ثور ،

      وموعد الانطلاق : بعد ثلاثة أيام ، وخط السير : الطريق الساحلي .

      وهذا كله شاهد على عبقريته وحكمته صلى الله عليه وسلم،
      وفيه دعوة للأمة
      إلى أن تحذو حذوه في حسن التخطيط والتدبير
      وإتقان العمل واتخاذ أفضل
      الأسباب مع الاعتماد على الله مسبب الأسباب أولاً وآخراً .

      *****
      (8) درس في الإخلاص :

      ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :
      " إنه ليس أحدٌ أمنُّ علي في نفسه وماله من أبي بكر "

      فقد كان أبو بكر
      } الذي يؤتي ماله يتزكى{
      ينفق أمواله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الدعوة إلى دين الله .

      لكن السؤال هنا هو
      لماذا رفض صلى الله عليه وسلم أخذ الراحلة من أبي بكر إلا بالثمن ؟

      قال بعض العلماء :

      إن الهجرة عمل تعبدي فأراد عليه الصلاة والسلام أن يحقق الإخلاص
      بأن تكون
      نفقة هجرته خالصة من ماله دون غيره . وهذا معنى حسن ،
      وهو درس في الإخلاص
      وتكميل أعمال القرب التي تفتقر إلى النفقة
      ( كنفقة الحج ، وزكاة الفطر ،
      وغيرها من الأعمال )
      فإن الأولى أن تكون نفقتها من مال المسلم خاصة
      .

      *****
      (9) درس في التأريخ الهجري :

      التأريخ بالهجرة النبوية مظهر من مظاهر تميز الأمة المسلمة وعزتها .
      ويعود
      أصل هذا التأريخ إلى عهد عمر رضي الله عنه .
      فلما ألهم الله الفاروق الملهم
      أن يجعل للأمة تأريخاً يميزها
      عن الأمم الكافرة استشار الصحابة فيما يبدأ
      به التأريخ ،
      أيأرّخون من مولده عليه الصلاة والسلام ؟ أم مبعثه ؟ أم هجرته
      ؟ أم وفاته ؟ .
      وكانت الهجرة أنسب الخيارات . أما مولده وبعثته فمختلف فيهما ،
      وأما وفاته
      فمدعاة للأسف والحزن عليه .
      فهدى الله تعالى الصحابة إلى اختيار الهجرة
      منطلقاً للتأريخ الإسلامي .

      وظلت الأمة تعمل بهذا التأريخ قروناً متطاولة ، حتى ابتليت في هذا العصربالذل والهوان ،
      ففقدت هيبتها ، وأعجبت بأعدائها ، واتبعتهم حذو القذّة
      بالقذّة ،
      حتى هجرت معظم الدول المسلمة تأريخها الإسلامي فلا يكاد يعرف
      إلا
      في المواسم كرمضان والحج ، وأرخت بتواريخ الملل المنحرفة .

      لقد نسينا تاريخنا فأنسينا تأريخنا .. وأضعنا أيامنا فضاعت أيامنا ..
      وما
      لم نرجع إلى ديننا الذي هو عصمة أمرنا ..
      فسلامٌ على مجدنا وعزنا .. والله
      المستعان .

      وإن مما يفخر به كل مسلم ما تميزت به هذه البلاد بلاد الحرمين
      ومهبط الوحي
      ومهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم
      من اعتماد التأريخ الهجري النبوي تاريخاً رسمياً لكافة مرافقها ،

      *****

      نسأل الله أن يحفظها وجميع بلاد المسلمين بحفظه ،
      وأن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان ، ويعز دينه ويعلي كلمته ،
      إنه جواد كريم ، والحمد لله رب العالمين ،
      وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



      فتحــــــــى عطــــــــــــــــا

      FATHY - ATTA
      كلام أم معبد في وصف رسول الله
      صلى الله عليه وسلم

      قَالَتْ أُمّ مَعْبَدٍ في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم:
      ظَاهِرُ الْوَضَاءَةِ أَبْلَجُ الْوَجْهِ حَسَنُ الْخُلُقِ لَمْ تَعِبْهُ ثُجْلَةٌ وَلَمْ تُزْرِ بِهِ صعْلَةٌ وَسِيمٌ قَسِيمٌ
      فِي عَيْنَيْهِ دَعَجٌ وَفِي أَشْفَارِهِ وَطَفٌ وَفِي صوَتِهِ صَحَلٌ وَفِي عُنُقِهِ سَطَعٌ.
      وَفِي لِحْيَتِهِ كَثَاثَةٌ أَحْوَرُ أَكْحَلُ أَزَجّ أَقْرَنُ شَدِيدُ سَوَادِ الشّعْرِ إذَا صَمَتَ عَلاهُ الْوَقَارُ
      وَإِذَا تَكَلّمَ عَلاهُ الْبَهَاءُ أَجْمَلُ النّاسِ وَأَبْهَاهُ مِنْ بَعِيدٍ وَأَحْسَنُهُ وَأَحْلاهُ مِنْ قَرِيبٍ.
      حُلْوُ الْمَنْطِقِ. فصل لا نَزْرٌ ولا هَذَرٌ كَأَنّ مَنْطِقَهُ خَرَزَاتُ نَظْمٍ يَنحدرنَ،
      رَبْعَةٌ لا تَقْتَحِمُهُ عَيْنٌ مِنْ قِصَرٍ ولا تَشْنَؤُهُ مِنْ طُولٍ.
      غُصْنٌ بَيْنَ غُصْنَيْنِ فَهُوَ أَنْضَرُ الثلاثَةِ مَنْظَرًا، وَأَحْسَنُهُمْ قَدًا.
      لَهُ رُفَقَاءُ يَحُفّونَ بِهِ. إن قَالَ اسْتَمَعُوا لِقَوْلِهِ.
      وَإن أَمَرَ تَبَادَرُوا إلَى أَمْرِهِ مَحْفُودٌ مَحْشُودٌ. لا عَابِسٌ وَلا مُفْنِدٌ.
      قولها ( ظَاهِرُ الْوَضَاءَةِ) أي ظاهر الجمال،
      ( أَبْلَجُ الْوَجْهِ) أي مشرق الوجه مضيئوه،
      ( حَسَنُ الْخُلُقِ)( لَمْ تَعِبْهُ ثُجْلَة) الثجلة عِظَمُ البطن مع استرخاء أسفله
      ( وَلَمْ تُزْرِ بِهِ صَعْلَة) أي صغر الرأس
      ( وَسِيمٌ ) المشهور بالحسن كأنه صار الحسن له سمة
      ( قَسِيمٌ ) الحسن قسمة الوجه ، أي كل موضع منه أخذ قسما من الجمال
      ( فِي عَيْنَيْهِ دَعَجٌ) اشتد سوادها وبياضها واتسعت
      ( وَفِي أَشْفَارِهِ وَطَفٌ) أي طول
      ( وَفِي صوَتِهِ صَحَلٌ) أي شبه البُحة
      ( وَفِي عُنُقِهِ سَطَعٌ) أي طول العنق
      (وَفِي لِحْيَتِهِ كَثَاثَةٌ)
      ( أَحْوَرُ ) اشتد بياض بياض عينيه مع سواد سوادهما
      ( أَكْحَلُ ) أي ذو كُحْلٍ، اسودت أجفانه خلقة
      ( أَزَجّ أَقْرَنُ) أَي مَقْرُون الحاجبين من غير اتصال
      ( شَدِيدُ سَوَادِ الشّعْرِ)
      ( إذَا صَمَتَ عَلاهُ الْوَقَارُ) أي الرزانة والحِلْم
      ( وَإِذَا تَكَلّمَ عَلاهُ الْبَهَاءُ) من الحسن، الجلال والعظمة
      ( أَجْمَلُ النّاسِ وَأَبْهَاهُ مِنْ بَعِيدٍ وَأَحْسَنُهُ وَأَحْلاهُ مِنْ قَرِيبٍ حُلْوُ الْمَنْطِقِ)
      ( فصْلٌ لا نَزْرٌ وَلا هَذرٌ) أي لا قليل ولا كثير أي ليس بقليل فيدل على عِيِّ ولا كثير فاسد
      ( كَأَنّ مَنْطِقَهُ خَرَزَاتُ نَظْمٍ يَنحدرنَ) أي كلامه محكم بليغ
      (رَبْعَةٌ ) (لا تَقْتَحِمُهُ عَيْنٌ مِنْ قِصَرٍ) أي لا تزدريه لقصره فتجاوزه الى غيره بل تهابه وتقبله
      (وَلا تَشْنَؤُهُ مِنْ طُولٍ) أي لا يُبْغَضُ لفرط طوله
      ( غُصْنٌ بَيْنَ غُصْنَيْنِ فَهُوَ أَنْضَرُ الثّلاثَةِ مَنْظَرًا) (وَأَحْسَنُهُمْ قَدًّا)أي قامة
      ( لَهُ رُفَقَاءُ يَحُفّونَ بِهِ. إذَا قَالَ اسْتَمَعُوا لِقَوْلِهِ. وَاذَا أَمَرَ تَبَادَرُوا إلَى أَمْرِهِ)
      (مَحْفُودٌ) أي مخدوم
      ( مَحْشُودٌ ) الذي يجتمع الناس حوله
      (لا عَابِسٌ)( وَلا مُفْنِدٌ) المنسوب الى الجهل وقلة العقل،
      الـمـُفْنِد أي لا فائدة في كلامه لكبرٍ أصابه .
      صِفَةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم
      كان المصطَفى
      رَبْعَةً مِنَ الرِّجَالِأي مَربوعَ الخَلْقِ مُعتدِلَهُ لا مِنْ قِصَارِ الرّجَالِ ولا مِنَ الطِّوال
      لكِنَّهُ كانَ إلى الطولِ أقرب،
      وكانَ بعيدَ ما بينَ الْمَنكِبَين أي عريضَ ما أعلى الظَّهرِ والصَّدرِ وهو دليلُ النجابةِ،
      والمنْكِبُ مَجْمَعُ العَضُدِ والكَتِفِ.
      وفي الصَّحيحِ مِنْ طريقِ البراءِ بنِ عازب
      أنَّ شعرَهُ كانَ يبلغُ شحمةَ أذنِهِ أي إذا أخذَ منهُ،
      وفي روايةٍ
      يوفّرُهُ مرة أخرى فيكونُ وَفْرَةً وهو الشعر الذي يَصِلُ شحمةَ الأذنِ،
      وفِي روايةٍ:
      كان شعره يبلغُ شحمةَ أذنِهِ كان يضربُ منكِبيه مرةً،
      ومرَّة يطولُ حتى يعلوَ ظهرَهُ.
      قال عياض:
      والْجمعُ بين هذه الروايات أن ما يلي الأذن هو الذي يبلغُ شحمةَ أذنيه
      والذي بينَ أذنيه وعاتقِهِ وما خلفَه هو الذي يضرِبُ مَنكبيه
      وقيل بل يَختلِفُ باختلافِ الأوقات،
      فإذا لَم يقصِّرْهُ بلغَ المنكبَ وإذا قَصَّرَهُ كان إلى أنصَافِ أُذُنَيهِ، وكانَ يَفْرِقُ شعرَهُ
      ولا يَحلقُ رأسَه إلا لأجل النسك وكان يجعلُ شعرَهُ أربعَ ضفائِرَ
      ويَجعلُ كُلاًّ مِنْ أذُنيه بين ضفيرتين وكانَ شعرُهُ حِلقًا حِلقًا
      ولَم يكن سَبْطَ الشعر ولا جَعدَ الشعر.
      وكانَ الْمصطفى
      أبيضَ اللَّونِ مُشْرَبًا بالحُمرَةِوالإشرابُ خلطُ لونٍ بلون كأنَّ أحدَ اللّونينِ سُقِيَ بالآخر،
      وفي صحيحِ البخاريِّ عن أنسٍ:
      كانَ أزهرَ اللَّونِأي أبيضَ مُشرَبًا بِحُمرَةٍ
      وكانَ أشكلَ العينينأي يُخالِطُ بياضَ عينيهِ حُمرةٌ وهو محمودٌ مطلوب،
      واسعَ العينينطويلَ شِقِّ العَين،
      وكان أدعجَ العينينِوالدَّعَجُ شِدَّةُ سوادِ العينِ وقيلَ هو شِدَّةُ سوادِ العينِ معَ شِدَّةِ بياضِها.
      وفي الصَّحيحِ عن أنسٍ أنه
      رَجْلٌ جَعْدُ الشعرِ ومرادُهُ أنه ليس بِسَبِطٍ وهو المنبسطُ المسترسل الذي لا تَكسُّرَ فيه ولا بِجعدٍ
      وهو ما بضدِّهِ بل كان بينَ ذلك كما جاء في الخبرِ الآخر،
      وكان كَثَّ اللّحيةِأي كثيرَ شعَرِها غليظَه،
      وكانَ أشعرَ الصَّدرِأي كثيرَ الشَّعَرِ على صدرِهِ رَقيقَ المَسرُبَة وفُسّرَ بأنه الشَّعر الْمُسْتدَقّ
      مِنَ السُّرةِ إلى مُحاذاةِ اللَّبة وهو شعَرٌ يَجري كالقضيبِ ليسَ في بطنِهِ ولا ظهرِهِ غيره،
      وكان شَثْنَ الكفينِ والقدمينأي غليظَهما مِنْ غير قِصَرٍ ولا خُشونَةٍ
      فالمرادُ غِلَظُ العُضوِ في الخلقَةِ لا خشونَةَ الجلدِ وذلكَ يستلزِمُ قوةً في القبضِ والمشيِ
      وهو محمودٌ في الرجال،
      والكفين تَثنِيَةُ كَفٍّ وهي الراحَةُ معَ الأصابعِ سُمّيت به لأنها تَكُفُّ الأذى عَنِ البدنِ.
      وكانَ
      إذا مَشَى كأنما ينحَطُّ مِنْ صَبَبٍأي ينحَدِرُ مِنْ مكانٍ عالٍ،
      وكان إذا مشَى كأنما يَتَقَلَّعُ أي يُخرِجُ قدميهِ مِنْ صَخْرٍ أي قويَّ المَشيِ كأنهُ
      يرفعُ رِجليهِ مِنَ الأرضِ رَفعًا قويًّا مُسْرِعًا لا كَمَنْ يَمشي اختيالاً،
      ويقارب خطاه
      وكان يُقبِلُ بكُلِّهِ أي بكلِّ جسمِهِإذا التفت فلا يُسارِقُ النظرَ ولا يلويَ عُنقَهُ
      في حالِ تَلفُتِهِ فكانَ يُقبِلُ جَميعًا ويُدبرِ جَميعًا أي بِجَمِيعِ أجزاءِ بدنِهِ
      فإذا توجَّهَ إلى شىءٍ توجَّهَ بِكُلّيتِهِ ولا يُخالِفُ ببعضِ جسَدِهِ بعضًا،
      وكانَ عرقُهُ إذا رَشَحَ جسَدُهُ الشريف كاللؤلؤِ فِي البياضِ والصَّفاءِإذا نظرَ إليه الرائي،
      وكان ريحُ عرقِهِ أطيبُ مِنَ المسكومِنْ ثَمَّ كانت تَجمعُهُ أم سُلَيم سَهْلَة أو رَملَة
      أو الرُّمَيصَا في قارورةٍ وتجعلُهُ في طِيبِها كما رواهُ مسلمٌ وغيرُهُ،
      وفي بعضِ طُرُقِهِ وهو أطيبُ الطيبِ فهو لعمري والله أطيبُ طِيبٍ وأفضلُهُ،
      وفي حديثِ وائلِ بنِ حِجْر عندَ الطبرانِيّ والبيهقيّ
      قد كنتُ أصافِحُ رسولَ الله أو يَمَسُّ جلدي جِلدَهُ فأتعرّفُهُ بَعْدُ فِي يدي
      وإنه لأطيَبُ رائحةً مِنَ الْمِسكِ،
      وفِي حديثِهِ عندَ أحمدَ أُتِيَ رسول الله بدلوٍ مِنْ ماءٍ فَشَرِبَ منه ثُمَّ مَجَّ فيهِ
      ثُمَّ صَبَّهُ فِي البئرِ ففاحَ منها ريحُ الْمِسك.
      وروى أبو يَعلَى والبزّار بسَنَدٍ صحيح عن أنَسٍ رضيَ اللهُ عنه:
      كانَ إذا مَرَّ أي رسولُ الله في طريقٍ مِنْ طُرُقِ المدينة وُجِدَ منها رائحةُ المسك
      فيُقال مَرَّ رسول الله، يقول مَن ينعتُهُ أي يَصِفُهُ:
      ما رأيتُ مِثلَهُ قبلَهُ ولا بعدَهُ قطّ،
      وروى الشيخان عن البَراءِ بنِ عازبٍ رضيَ اللهُ عنه:
      لَم أرَ شيئًا أحسَنَ منه.
      وروى ابنُ أبِي سفيانَ فِي مُسندِهِ عن أبي إسحاقَ الهمَدانِيّ:
      قلتُ لامرأةٍ حَجَّت معَ المصطفى شبِّهِيهِ لِي فقالت:
      كالقمَرِ ليلةَ البدرِ ولَم أرَ قبلَهُ ولا بعدَهُ مِثلَهُ،
      وروى الدّارِمِيّ قال أبو عُبيدَةَ بنُ محمّدِ بنِ عمّارِ بنِ ياسر
      قلتُ للرُّبَيّعِ بنتِ مُعَوِّذ صفيْ رسولَ الله قالت:
      لو رأيتَهُ لقلتَ الشَّمسُ طالعِةً أي لرأيتَ شَمسًا طالعةً،
      وروى أحمد وغيره عن أبِي هريرة:
      ما رأيتُ أحسَنَ منْ رسولِ الله كأنَّ الشمسَ تَجري فِي وجهِهِ،
      وفِي لفظٍ تَخرُجُ مِنْ وجهِهِ.
      وكان أبلجَ الوجهِ أي مُشرِقُهُ نيّرُهُ ظاهرُ الوَضَاءَةِ والبهجَةِ والجمَال،
      قالَ البراءُ بنُ عازب رضي الله عنه:
      ما رأيتُ مِنْ ذي لِمَّةٍ فِي حُلَّةٍ حَمراء أحسنَ منه،
      رواه مسلمٌ وأبو داودَ.
      وقال أبو هريرة:
      كانَ أحسَنَ الناسِ صِفَةً وأجملَهُم، رواهُ الحسَنُ بنُ الضحَّاكِ في شَمائلِهِ،
      وقالَ ابنُ عباسٍ:
      لَم يقم مع شمسٍ قطُّ إلا غلَبَ ضوءُهُ ضوءَ الشمسِ ولم يقُم مع سراجٍ قطّ
      إلا غلبَ ضوءُهُ ضوءَ السّراجِ، رواهُ ابنُ الجوزِيّ،
      وقال نَفْطَويه في قوله تعالى:
      ﴿يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ﴾ الآية،
      هذا مَثَلٌ ضربَهُ الله لنبيّهِ،
      يقول: يكادُ نظرُهُ يدلُّ على نبوَّتِهِ وإن لَم يتلُ قُرءانًا
      لَم تَعِبْهُ ثَجْلَةٌ أي لَم يوجد في بدنِهِ شىءٌ يُعابُ به ثَجْلَةٌ ولا غيرُها،
      والثَّجلَةُ عِظَمُ البَطنِ مع استرخاءِ أسفلِهِ،
      ولَم يُعِبهُ رِقّةٌ وهُزالٌ وضَعْفُ تركيب، ولَم تُزْرِ به صَعْلَةٌأي لَم يُحتقر ولم يُستخفَّ به
      بسَبَبِ صِغَرِ الرأسِ أو الرقَّةِ والنحولِ في البدنِ،
      والأهدابُ منه فيها وَطَفٌ مِنْ طولِهاوفِي روايةٍ غَطَفٌ وهو أنْ يطولَ شعَرُ الأجفانِ
      ثم يَتَغَطَّف أي أن يطولَ وينعَطِفَ، والجِيدُ أي العنُقُ فيه سطَعٌ وهو طولُ العنقِ وارتفاعُهُ وسيمٌ،
      أي ومن صفاتِهِ الحسنُ والوضاءةُ فإنه صارَ الحسنُ له علامة،
      والصوت منه فيه صحَلٌوهو غِلَظٌ في الصوتِ وفي صوتِهِ شِبْهُ بُحَّةٍ،
      ومن صفاتِهِ أنه قَسِيمٌ والقسامةُ الحسنُ أي جَميلٌ كلُّهُ
      كثيفُ اللّحيةِ أزجُّأي مقوّس الحاجبين أي طويلُهما دقيقُهُما مُمتدُّهُما إلى مؤخَّر العين
      سوابغُ في غيرِ قرَن كان بِحَسَبِ ما يبدو للناظر من بُعدٍ أو بغيرِ تأمّلٍ أقرن
      وأما القريبُ المتأملُ فيبصرُ بين حاجبيهِ فاصلاً لطيفًا فهو أبلَجُ فِي الواقع أقرنُ
      بحسب الناظرِ من بُعْدٍ أو بغير تأمُّلٍ، والعَرَبُ تستَملِحُ البلَجَ والعجمُ تستحسنُ القرنَ
      ونظرُ العربِ أدقُّ وطبعُهُم أرقُّ،
      أجملُ الناسِ وأبهاهُم من بعيد وأحسنهُ وأحلاهُ من قريب، أي مَنْ رءاهُ مِنْ بُعْدٍ رءاهُ أجملَ
      من كلِّ أحد وأبهى، والبهاءُ حُسْنُ الهيأةِ إن تكلّمَ علا بكلامِهِ على مَنْ حولَهُ مِنْ جُلسائهِ
      وإن صمَتَ فعليهِ الوقارُأي الحلمُ والرّزانةُ، وفي روايةٍ إذا صمتَ فعليه البهاء
      وإذا نطقَ فعليهِ الوقار ،كأن مَنْطِقَهُ خرزاتُ نَظمٍ يتحَدّرْنَ أي منطِقُهُ يُشبِهُ خرزاتِ اللؤلؤِ المنظومِ
      إذا تحدّرت مِنْ فِيهِ وتساقطت.
      (فَصْلُ الكلامِ):
      أي كلامُهُ بَيّنٌ ظاهرٌ يَفْصِلُ بينَ الحقِّ والباطلِ ليسَ فيه هَذَرٌ
      أي ليسَ فِي كلامِهِ تكثيرٌ يَمَلّ سامِعُهُ، حُلوُ المنطِقِ لا نَزَرٌ ولا هَذَرٌ أي ليسَ كلامُهُ بقليلٍ لا يُفهَم
      ولا بكثيرٌ يُمَلُّ، ولَم يكن كلامُهُ بقليلٍ يدُلُّ على عِيِّ المُتَكَلِّمِ به.
      وكانَ المصطفى
      ليس بالطويلِ البائنِولا تقتحمُهُ عينٌ من قِصَر، أي لا يزدريهِ من ينظُرُهُ لقِصَرٍ
      ولا يحتقرُهُ فيتجاوزُ عنه إلى رؤيةِ غيرِهِ
      بل يهابُهُ ويُعظِّمُهُ لحُسنِ منظرِهِ وعِظَمِ قدرِهِ، تطوفُ رُفقتُهُ به ويدورونَ حولَهُ
      مع اهتمامِهِم بشأنهِ إذا أمرهم بشىء تبادروا له امتثالاً لأمرِهِ
      وإن قال قولاً أنصتوا له إجلالاً وإعظامًا،
      فهو عند أصحابِهِ مَحفُود أي مخدوم يُسرعون طاعةً له، مَحشُودٌ أي يجتمعُ الناسُ حولَهُ
      ليمتثلوا قولَهُ ويقتدوا بأفعالِهِ، ليس بعابِسٍ أي الكريهِ المُقلِي ولا مُفَنِّد
      وهو الذي لا فائدةَ لكلامِهِ لقلّةِ عقلِهِ.
      وكان مُفَخَّمًاأي مُعَظّمًا في الصّدورِ والعيون فخمًا أي عظيمًا في نفسِهِ
      يتلألأ وجههُ تلألؤَ القمرِ ليلة البدرِ أي يشرقُ وجههُ
      ويَسْتَنِير كاستنارةِ القمر ليلة بَدَارَتِهِ وهي ليلةُ أربعةَ عشَر،
      مُعتدلُ الخلْقِفي جميعِ صفاتِهِ ومعتدِلُ الصّورةِ الظاهرةِ بِمعنى أن أعضاءَهُ متناسبة،
      عريضُ الصدرِ عظيمُ الرأسِ عظيمُ الهامَ واسِعُ الجبين أي مُمتدُّهُ طويلُهُ وعريضُهُ
      وذلك مَحبوبٌ مَحمود، ضَليعُ الفَمِ أي عظيمُهُ واسِعُهُ والعربُ تتمدَّحُ به وتذمُّ ضيّقَهُ،
      وكان لِسَعَتِهِ يفتتحُ الكلامَ ويَختِمُهُ بأشداقِهِ وهو دليلٌ على قوّةِ الفصاحة،
      أقنَى العِرْنِين أي مُرتفعُ أعلى الأنفِ مُحدودِبُ الوسطِ منه،
      وهذا معنَى قولِ ابنِ الأثير هو السَّائلُ الأنفِ المرتفعُ وسَطُهُ،
      له نورٌ يعلوه يَحسَبُهُ مَنْ لَم يتأمّلْهُ
      أشَمَّ أي يَعْلو أوّلَ أنفِهِ وطولَ قصبتِهِ نورٌ ساطِع وإذا لَم يتأملهُ الناظِرُ يظُنُّهُ أشَمَّ الأنفِ،
      والشَّمم ارتفاعُ قصبَةِ الأنفِ وطولُها مع استواءِ أعلاه وإشرافِ الأرنبَةِ قليلاً،
      مُفَلَّجَ الأسنانِأي مفرَّجَ ما بينَ الثَّنايا والرَّباعِيَات،
      والفَلَجُ أبلغُ في الفصاحَةِ لأنَّ اللِّسانَ يتّسِعُ فيها بِخِلافِ الألَصّ،
      واللَّصَصُ تقاربُ ما بينَ الأضراس حتى لا تَرى بينها خَلَلاً.
      سَهلَ الخدّينِأي سائلَهُما غيرَ مرتَفِعِ الوَجنَتِينِ وذلكَ أعلى وأحلى عندَ العرب،
      أشنَبُ أي أبيضُ الأسنان بادِنٌ أي عظيمُ البدَنِ لكن لا مطلقًا
      بل بالنسبةِ لما ذكروهُ من كونِهِ شثنَ الكفين والقدمين،
      جليلَ المُشاشِومع ذلك كان متماسكًا أي يُمسِك بعضُ أجزاءهِ بعضًا
      مِنْ غير تزحزحٍ ولا استِرْخَاءٍ في اللَّحم ليسَ بسَمينٍ ولا ناحِل
      فهو معتدلُ الخلْقِ لأنه تعالى حَماهُ خَلقًا وخُلقًا مِنَ الإفراطِ والتّفريط،
      وكانَ طويلَ الزندين وهو ما انحسَر عنه اللحمُ من الذراع ،
      وفي الصَّحاح موصلُ طرفِ الذراعِ من الكفِّ، عنُقُهُ يُرى كجيدِ دُمية
      أي يراهُ الرائي كجيدِ دُميةٍ كصورةٍ مصورةٍ بيضاءَ مُشرَبَةً بحُمرة قد بولِغَ في تَحسينِهِا،
      وكان عنقُهُ مع ذلك كالفضةِ الصافية فشُبِّهَ عنقُهُ بالدُّمْيَةِ في الصَّفاءِ والاعتدال
      وظُرفِ الشكل وحُسنِ الهيأةِ والكمَالِ وبالفضةِ باللمعانِ والضياءِ والإشراقِ والجمال
      وكان بين حاجبيهِ عِرقٌ يُدِرُّهُ الغضبُ أي يحركُهُ ويُظهرُهُ ويُهيّجُهُ بإثارَةِ ما فيه
      من الدّمِ وفيه دليلٌ على كمالِ قوّتِهِ الغضَبية التي عليها مدارُ حمايَةِ الديار وقمعِ الأشرار
      وكمالِ الوقار وتمكّنِهِ من الغضبِ للجبارِ القهار إذا انتُهِكَ شىءٌ من محارِمِهِ.
      وكان إذا خطبَ علا صوتُهُ واحمرّت عيناه.
      وكان سائلَ الأطرافأي طويلَ الأصابعِ مُمتدَّها بلا احديدابٍ ولا تعقُّدٍ ولا انقباضٍ
      ولا تكسُّرِ جِلدٍ ولا تشنّجٍ،
      رَحْبَ الراحةِأي واسِعَ الكفِّ حِسًّا ومعنًى والراحةُ بطنُ الكفِّ،
      ضخمَ الكراديسأي عظيمَ رؤوسِ العظامِ غليظَها،
      ذريعَ المِشيةِأي سريعَ هيئةِ المشيِ
      واسِعَ الخُطوةِفهو مع كونِ مَشيِهِ بسكينةٍ كان يمدُّ خُطوتَهُ حتى كأن الأرض تُطوى له،
      وكانَ خُلُقَهُ القرءانأي ما دَلَّ عليه مِنْ أوامرِهِ ونواهيهِ ووعدِهِ ووعيدِهِ
      فهو لدى غضبِهِ غضبان ،أي كلُّ مكانٍ جاءَ فيهِ ما يدلُّ على غَضَبِ الله فهو غضبانٌ لأجلِهِ،
      يرضى بما يرضاه القرءانُ ويتأدّبُ بآدابهِ ويتخلّقُ بأخلاقِهِ ويلتزِمُ أوامِرَهُ
      ولا يغضبُ لنفسِهِ إلا إذا ارتُكِبت محارمُ الله فإنه حينئذ ينتقمُ من مُرتَكِبِها
      فإذا تُعُدّيَ الحقُّ لم يقم لغضبِهِ شىء أي لشدّةِ انتقامِهِ.
      وفي روايةِ الطبرانيّ فإذا انتهِكت حُرمَةُ الله كان أشدّ الناس غضبًا لله
      أي فينتقمُ من مرتكِبِ ذلك كما هو شأنُ أكابِرِ المرسلين،
      وقد بعثَهُ الله الرَّحمٰنُ بالإرفاقِ أي رفقًا بهذه الأمّة لكي يُتمّمَ مكارِمَ الأخلاق،
      وكان أشجعَ الناسأي أقواهُم قلبًا وأكثرُهُم جراءةً لِمُلاقاةِ العدوّ في مكانِ القتالِ،
      وطالَما استنجدَهُ الخائفُ عند خوفِهِ فأنجَدَهُ أي أعانَهُ ونصرَهُ كان أسخى الناس كَفًّا
      ما سُئلَ رسول الله شيئًا قطُّ يعنِي حاجةً مِنْ متاعِ الدُّنيا يُبَاحُ إعطائُها فقالَ لا،
      بل إنما يُعطيهِ أو يقولُ له مَيسُورًا مِنَ القولِ فيَعِدُهُ أو يَدعُوَ له،
      وليس يأوي إلى منزلهِ إن فَضَلَ أي بقيَ مما أُتِيَ به إليهِ من نحو غنيمةٍ درهَمٍ أو دينار
      حتى يُفرِّقَهُ على مُستحقّيه،
      وكان أصدَقَ الناسِ لهجةَأي لسانًا يعني كلامًا والمعنى كلامُهُ أصدقُ الكلام
      ولسانُه أصدقُ الألسنة،
      وكان أوفى الناسِ ذِمّةًأي عهداً وأمانًا وألينهُم عَرِيكَةً أي أحسنَهم معاشرَةً
      فكان على الغايةِ من التواضعِ وقِلّةِ النفور والخلافِ وهكذا كان حالُهُ
      مع جميعِ أمةِ الإجابة وكانَ أكرَمَهُم في عِشرة أي في حُسنِ صُحبة،
      من يُصاحبه ويُعاشره لا يحسبُ جليسَهُ أي مَنْ يُجالسُهُ
      أن سواهُ أقربَ منه إليهُ لعُظمِ إكرامِهِ له،
      وكان أشدَّ حياءً من العذراءِ في خِدرِهاأي يزيدُ على العذراءِ في خِدرها حياءً،
      وكان نظرُهُ إلى الأرض أكثرَ من نظرِهِ إلى السماءِ
      كما في خبر الترمذيّ ي
      عني نظرُهُ إلى الأرضِ حالَ السكوتِ وعدمِ التحدُّثَ أطولَ من نظرِهِ إلى السماء،
      والنظرُ كما في الصَّحاحِ بفتحتين تأملُ الشىء بالعين، والأرضُ الجِرمُ المقابلُ للسماء،
      وإنما كان نظرُهُ إلى الأرض أطول لأنه أجمعُ للفكرَ وأوسعُ للاعتبار،
      أو لأنه أكثرُ الناس حياءً وأدبًا مع ربِّهِ،
      أما في حال التحدُّثِ فكان يُكثرُ أن يرفعَ طرْفُهُ إلى السماء
      فلا تعارُضَ بين حديثِ الترمِذي وهذا وبين حديثِ أبي داود كان إذا جلسَ يتحدّثُ
      يُكثرُ أن يرفَعَ طرفَهُ إلى السَّماء،
      وكان لا يُثبتُ بصرُهُ في وجهِ أحد لِشِدّةِ حياءِهِ أي إذا نظرَ لشىء ما خفَضَ بصرَهُ
      لأن هذا شأن المتواضِعِ وهو متواضعٌ بسليقَتِهِ
      وشأن المتأملِ المتفكِّر وهو مَشغولٌ بالتفكُّرِ فِي ءالاءِ رَبِّهِ،
      وقيل هو كِنايةٌ عن لِينِ جانبِهِ ومزيدِ تواضُعِهِ، والطَّرفُ العَينُ وهو في الأصلِ تحريكُ الأجفانِ
      عند النظرِ فوضِعَ موضِعُ النظر وكان أكثرَ الناسِ تواضُعًا.
      كيف وقد خُيِّرَ بين أن يكونَ نبيًّا مَلِكًا أو نبيًّا عبدًا فاختارَ الثانية،
      وكان يُجيبُ كلَّ من دعاه من بعيدٍ أو قريب من عبدٍ أو حُرٍّ أو فقيرٍ أو غنيٍّ دنِيٍّ أو شريف،
      وكان أرحمَ الناسِ بكُلِّ مؤمن وبكلِّ طائفٍ فلا يختصُّ برحمتِهِ من يعقلُ
      بل تعمُّ رحمتُهُ من لا يعقِلُ كالوحشِ والطَّيرِ، وكان كل طائف يعروهُ أي يقصدُهُ
      حتى الهرّة فكانت تأتيه فكان يُصغي لها الإناء لتشربَ يفعلُ ذلك غيرَ مرّة
      بل كلُّ هرةٍ أتته يفعلُ بها ذلك، وكان أعفَّ الناس أي أنزههم عما لا يليقُ
      ومن عِفَّتِهِ أنه ليس يُمسكُ أيدي نساءِ من ليس لهنَّ يَملِكُ من رقٍّ ونكاح وفي الحديثِ:
      ((ما مسّت يدُ رسول الله يد امرأةٍ لا تحلُّ له قطُّ))
      وكان يُبايعُ النساءَ ويستغفرُ لهنّ امتثالاً لقولِهِ تعالى:
      ﴿واستغفر لَهُنَّ الله
      لكن لا يُصافحُ أيديهنّ بل مبايعتُهُ لهنَّ كلامٌ صالحٌ يعنِي بايعَهُنَّ بالكلامِ لا بالمصافحَةِ في اليدِ
      عند المبايَعَةِ، وكان أشدَّ الناس لأصحابهِ إكرامًا لهم
      ومِن ذلك أنه كان لا يَمُدُّ رِجلَهُ بين جُلسائهِ احترامًا لهم.
      وفي روايةٍ:
      كان أوقر الناسِ في مجلِسِه لا يكادُ يُخرجُ شيئًا من أطرافِهِ إكرامًا واحترامًا لهم
      ولم يكن يُقدّمُ رُكبتيه على جليسِهِ بل كان يُكرِمُهُ بتجنّبِ ذلك تواضعًا وإيناسًا ،
      ومن رءاهُ بديهةً أي رؤيةً بديهةً يعني فجأةً من غير مُخالطتهِ ومعرفِةِ أخلاقهِ
      وقبلَ النظرِ في أخلاقِهِ العَلِيّةِ وأحوالِهِ السَّنِيّة هابهُ وعظّمَهُ وخافهُ طبعًا أي بالطّبعِ
      وإن لم يرَهُ قبل ذلكَ لمِا علاهُ من صفاتِ الجلالِ ونعوتِ الكمال، ومن خالطَهُ وعاشرَهُ أحبّهُ
      لما يُشاهدُهُ من محاسنِ أخلاقِهِ ومزيدِ شفقتِهِ وتواضُعِهِ وباهرِ عظيمِ تألُّفِهِ وأخذِهِ بالقلوبِ
      فكانت تحنُّ إليه الأفئدة وتَقَرُّ به العيون وتأنسُ به القلوب فكلامُهُ نور ومدخَلُهُ نور
      ومخرَجُهُ نور وعمَلُهُ نور إن سكتَ علاهُ الوَقَار
      وإن نطَقَ أخذَ بالقلوبِ والبصَائرِ والأبصَار .


      وصف ام معبد للنبي صلى الله علية وسلم - د. عمر عبدالكافي‬‎ - YouTube


      فتحــــــــى عطــــــــــــــــا
      FATHY - ATTA

      تعليق


      • #4
        على رسولنا محمد افضل الصلاة والسلام
        موضوع جميل وبه كم كبير من الفوائد
        تحياتي
        يثبت

        تعليق


        • #5
          اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا

          تعليق


          • #6
            عليه افضل الصلاة والسلام

            جزاك الله خيرا اخي الكريم
            هناك امور رائعة في الحياة نراها
            بغير عيوننا إن تجنبنا التجاهل
            (راجي)

            تعليق

            تشغيل...
            X