1- الحرب الإعلامية:
أول النقاط التي من المفترض أنك تبحث عنها في عدوك هي نقاط ضعفه ، والدولة الليبية نقطة ضعفها الأهم تمثلت في الخطاب الإعلامي الموجه للداخل ، فقد كان خطابا إعلاميا رديئا وروتينيا إلى حد كبير ، ما تسبب في عزوف المواطنين عنه وفقدان مصداقيته ، وابتداء من منطلق هذا الجسد الإعلامي المتهالك بدأت المعركة ضد الدولة الليبية لإسقاطها ، حيث استغل الطرف الآخر الفراغ الإعلامي الرهيب في الداخل الليبي وبدأ بترويج الإشاعات و الأكاذيب التي تم تضخيمها وتداولها على مختلف وسائل الإعلام العالمية ، فقد بدأت هذه الأكاذيب بكذبة أن القذافي - رئيس البلاد الفعلي - قد غادر إلى فنزويلا ، وقد كانت هذه هي الضربة الأولى التي كان لها صدى واسع بين أطياف الشعب الليبي ، واستغلت الجهات المعارضة في الداخل هذا الخبر لإثارة الفوضى في المدن والسيطرة على مراكز الأمن والجيش المختلفة في المدن والسيطرة على مخازن السلاح ، وقد نجحت هذه الضربة الإعلامية في سقوط شرق البلاد بكل كامل في أيدي المعارضة.
الضربة الإعلامية الثانية أو بالأحرى - الكذبة الإعلامية - كانت "المرتزقة" ، وهي أن القذافي قام بجلب مرتزقة أفارقة لقتل الليبيين ، وبالرغم من أنني تواجدت في ليبيا طوال فترة الحرب وحتى سيطرة الثوار على طرابلس ، إلا أنني لم أرى مرتزقا واحدا يقاتل أو حتى "جثة هامدة" ، تأثير خبر كهذا كان بمثابة الضربة القاضية لوحدة أجهزة الأمن وأدى إلى انهيارها انهيار شبه تام ، كما أن الكثير من الأطراف المترددة حسمت موقفها مع المعارضة ضد القذافي ، بناء على خبر المرتزقة الذي تم ترويجه إعلاميا.
الإعلام الليبي لم يتدارك الموقف سريعا ، بل كان في حالة غيبوبة إثر الصدمات المتتالية التي أفقدت أجهزة الدولة الليبية توازنها ، فظهرت إشاعة أو بالأحرى "كذبة" إعدام أفراد من كتيبة خميس على يد "كتائب القذافي" أو الجيش الليبي بمسماه الصحيح ، ولكن سرعان ما اتضحت الحقيقة بأن الثوار قاموا بإعداء هؤلاء بعد الإستيلاء على ثكناتهم في شرق البلاد .
بدأ الإعلام الليبي بتدارك الموقف ، حيث أن حالة من عدم التصديق كانت تنتاب شريحة من المجتمع الليبي ، ووجدوا ضالتهم في القنوات الليبية التي بدأت تبث برامج حوارية توضح مجريات الأمور حسب وجهة نظر "السلطة الحاكمة" فحدث نوع من التوازن الإعلامي بين الأطراف المعادية وبين الإعلام الليبي ، وهذا التوازن كان داخليا فقط ولم يكن موجه للرأي العام العالمي الذي كانت ومازالت تسيطر عليه الجهات المعادية للجماهيرية السابقة ، التوازن الإعلامي هذا جاء متأخرا ، لأن وسائل الإعلام المعادية نجحت في استقطاب شريحة لا بأس من المجتمع الليبي وتجنديها ضد القذافي ، إلا أن الإعلام الليبي وبعد فترة نجح أيضا في تجنيد متطوعين كثر للقتال على مختلف الجبهات وخاصة بعد تدخل حلف "الناتو" في الصراع.
2- الخيانة:
مبدئيا ، الجيش الليبي على مستوى جيد جدا من التسليح والتدريب الذي يؤهله لخوض غمار المعارك طويلة الأمد ، وقد ثبت ذلك عدة مرات خلال صمود هذا الجيش لمدة 6 أشهر في وجه أعتى القوى على وجه الأرض ، وبصراحة قوة الجيش الليبي وصموده في ظروف سيئة جدا داخلية وخارجية جعلتني أشعر بالفخر على المستوى الشخصي ، بأن جيش ضعيف على مستوى التسليح مقارنة بالجيوش التي كانت تحاربه استطاع الصمود والحفاظ على مواقعه لمدة 6 أشهر .
الخيانة تسببت في ضربات موجعة للجيش الليبي ، ففي بداية الأزمة وصلت وحدات الجيش الليبي إلى مدينة بنغازي ، ودخلت بالفعل إلى منطقة قاريونس ، ولكن خيانة آمر هذه الوحدات أدت إلى تراجعهم وتدميرهم من قبل حلف الناتو ، فلو كانت وحدات الجيش واصلت تقدمها لما استطاع الحلف وقف تقدم قوات الجيش ، لأنها كانت ستدخل بين الأحياء المدنية في بنغازي ، ولكن آمر الوحدات أمر بتراجعها مسافة 2 كم إلى أن وصلت إلى منطقة مكشوفة فتم قصفها بسهولة من قبل طائرات الحلف ، وبحسب شهادات أفراد من الجيش الليبي من عايشوا هذه اللحظة فإن قصف حلف الناتو للجيش الليبي تم قبل صدور قرار من مجلس الأمن بذلك .
كما أن خيانة "البراني شكال" ابن عم معمر القذافي وقائد الكتيبة المكلفة بحماية طرابلس ، أدى إلى انسحاب الجيش الليبي من مدينة مصراتة بعد أن نجح في السيطرة عليها 3 مرات ، و كان الرجل يمد الثوار بأسلحة الجيش الليبي من مختلف الأنواع ، وقبل مدة شهر ونص تقريبا من سقوط طرابلس كان هناك اتفاق صلح تم عقده بين القذافي وقبائل الزنتان ، إلا أن البراني اشكال قام بإمداد هذه القبائل بالسلاح وحثها على مواصلة القتال ، وهو ماكان بالفعل ، كما أن البراني شكال أعطى الأوامر لكتيبة "امحمد المقريف" المسؤولة عن حماية العاصمة بالإنسحاب فور دخول الثوار لطرابلس ، وهذه الكتيبة مكونة من 3500 فردا مسلحين بشكل جيد ومدربين بمستوى ممتاز ، كما أن البراني شكال مسؤول عن تراجع وحدات الجيش الليبي من البريقة إلى مدينة سرت بعد سقوط طرابلس حتى يسهل محاصرتهم والقضاء عليهم في المدينة ، وهو ما تم بالفعل ، طبعا كل ما فعل البراني اشكال أعلن عنه فخورا على إذاعة مصراتة الحرة.
التبليغ عن طريق الإحداثيات:
عملت عناصر المعارضة كخلايا نائمة في المدن التي تحت سيطرة القذافي ، كما أن الخيانة في الصفوف الأولى للقيادة والدائرة المقربة من القذافي ساعدت على تشكيل هذه الخلايا وتنظيمها ، وكانت مهمة هذه الخلايا أخذ الاحداثيات وإرسالها لجهات معارضة في الخارج أو في بنغازي ، لتصل بدورها إلى حلف الناتو الذي يقوم بعملية القصف ، وكانت هذه الخلايا تقوم برصد تحركات الأرتال العسكرية وتبلغ عن أماكن تجمعها وعن مخازن السلاح و صواريخ سكود ، أي أن وحدات الجيش الليبي كانت مكشوفة بشكل شبه كامل ومخترقة من داخلها ، وبالرغم من كل هذا ظلت هذه الوحدات تحافظ على مواقعها ويصلها الإمداد على مدى 6 أشهر من الصراع لم يستطع الثوار التقدم خلالها شبرا واحدا على الأرض ، بينما كانت غارات حلف الناتو تتم بشكل يومي وكانت الطائرات تجوب الأجواء على مدار الساعة.
التفوق الجوي للعدو:
كان الجيش الليبي يعاني بشكل كبير من ضعف في سلاح الجو ، وأعتقد أن القذافي ندم ندما شديدا لأنه لم يقم بشراء منظومة الدفاع الجوي الروسية التي عرضت عليه ، والتي قال حينها بأن ليبيا لا يلزمها مثل هذه المنظومة لأن الشعب مسلح وسيهزمون العدو "بالكلاشنكوف والاربي جي " على غرار المقاومة العراقية ، إلا أنه وبشكل عملي على الأرض نجح سلاح جو العدو - حلف الناتو- بوقف تقدم الجيش الليبي وإجباره على البقاء في مواقعه .
الرادرات الليبية التي أصابها الصدأ تم قصفها في الأيام الأولى من الحرب ، لذلك أصبحت الصواريخ الليبية صواريخ "عمياء" كما وصفها حلف الناتو ، وهكذا فقدت ليبيا السيطرة على أجوائها بشكل كامل ، وبدأ الإمداد والدعم يصل من قطر وفرنسا للثوار عبر الطائرات في مناطق الجبل الغربي والزنتان بالذات.
إختراق منظومة الإتصالات وتدمير مراكز المراقبة:
ليبيا كانت تمتلك مركزا لمراقبة هواتف الثريا ، وكان هذا المركز يقع بجانب مستشفى القلب بتجاوراء ، وهذا الموقع تم استهدافه في أول يوم من أيام القصف ، وبذلك فقدت الدولة مراقبتها على هواتف الثريا التي استخدمت كوسيلة اتصالات بين الخلايا النائمة وأطراف المعارضة في الخارج والداخل ، خاصة بعد قطع شبكة الإنترنت في ليبيا ، كما أن شبكات الإتصال المختلفة في ليبيا كان يتم التشويش عليها بشكل مستمر في مناطق الاشتباك بواسطة طائرة "اواكس" التجسسية ، وكنا نلاحظ اختفاء تغطية الهاتف المحمول حين تجوب هذه الطائرة سماء المدينة وتقوم بتصوير الأهداف.
الانشقاقات المتكررة:
كان الإنشقاق في الجيش الليبي يتم على مجموعات صغيرة ، فقد أدت الهجمة الإعلامية وهبوط المعنويات إلى التأثير على الكثير من مجموعات الجيش الليبي ، فقد تفرق هذا الجيش تحت ثلاثة بنود :
البند الأول: انشق وانضم للثوار البند الثاني: هرب من الخدمة البند الثالث : قـتـل
ولم يبق إلا القلة من أفراد الجيش على مختلف الجبهات يساندهم متطوعون - أي مدنيين حملو السلاح - وبالرغم من ذلك نجحوا في الصمود على مدار 6 أشهر.
ينتابني شعور بالحسرة والألم على ما آلت إليه الأوضاع في ليبيا ، فقد كنت أتخيل يوما أن هذا الجيش البارع سيخوض في يوم من الأيام معركة مقدسة ضد العدو التقليدي للعرب والمسلمين ، وأنا على ثقة كبيرة بأن معركة كهذه لو حصلت ، كان هذا الجيش سينتصر فيها لا محالة ، ولكن عدونا التقليدي عرف كيف يدمر هذا الجيش من الداخل ، وعرف أيضا كيف يقوم باغتيال العقول الفذة التي كانت تخطط وتدرب ، وعرف كيف يقوم بتصفية أفراد وحدات هذا الجيش تحت اسم "الحرية" و " حماية المدنيين " .
تحياتي
تعليق