أما بعد:
فنرحب بالإخوة في هذا اللقاء، والأسئلة إذا كانت ستطرح فتنضبط بضوابط أنها من الأسئلة الجديدة، أو ما يستشكل يعني يستشكله صاحبها، أما المسائل المشهورة التي فيها خلاف بين أهل العلم أو فيها كلام متنوع، أو نحو ذلك، فهذه لو تترك أحسن.
تفضّل
س1/ ما هي الضوابط في مسألة التكفير؟
ج/ التكفير معناه الحكم بالكفر على معين أو طائفة، فهناك كفر وهناك تكفير، هذه ثنائية الكفر والتكفير، وكذلك البدعة والتبديع، وكذلك الفسق والتفسيق إلى آخره.
فالكفر ينبني عليه التكفير، فلا تكفير إلا بكفر، ونعني بالكفر هنا الكفر الأكبر المخرج من الملة؛ إذ الكفر الأصغر غير المخرج من الملة هذا لا يقال فيه تكفير أصحابه، وإنما يقال تكفير أو التّكفير في من كفر كفرا مخرجا من الملة، وأصل التكفير، هو سلب الإيمان عن من قام به.
والإيمان له تعريف في الشرع عند أهل السنة والجماعة، وهذا الإيمان عند أهل السنة والجماعة: قول وعمل واعتقاد. فمن دخل في الإيمان وصح عليه اسم الإيمان فإنّ معنى تكفيره أن يُسلب عنه أصل الإيمان يعني يكون كافرا بعد أن كان مؤمنا.
وإذا كان الإيمان عند أهل السنة والجماعة بالقول والعمل والاعتقاد كأركان ثلاثة وليست لوازم، فإن من انتفى في حقه الاعتقاد فهو كافر؛ لأنه ذهب ركن الإيمان إلا على هذه جميعا، ومن انتفى في حقه القول فهو كافر، ومن انتفى في حقه جنس العمل فهو كافر، وهذا معنى أهل السنة والجماعة الإيمان قول وعمل واعتقاد.
فإذن التكفير عند أهل السنة والجماعة يكون بالاعتقاد، ويكون بالأعمال، ويكون بالأقوال؛ لأنه مقابل له، وكل هذه تنقسم إلى قسمين، منافاة الأصل أو ارتكاب شيء ينافي الأصل.
فمثلا القول من امتنع عن كلمة التوحيد قولا فإنه لا يصير مؤمنا، ومن امتنع عن العمل فإنه لا يصير مؤمنا؛ يعني قال أنا ممتنع غير ملتزم بعمل من الأعمال الواجبة أو بترك المحرمات فإنه ليس بمؤمن، كذلك من قال: لا أعتقد شيئا مما يجب اعتقاده في الإيمان فإنه يُسلب عنه أصل الإيمان. هذا من جهة تأصيلات الإيمان.
وأنا استعملت بعض الكلمات التي ربما تفهم غير وجهها فأوضحها إن شاء الله وهي: كلمة التزام وامتناع وهتان كلمتان تردان كثيرا في كتب أهل العلم وفي أجوبتهم وخاصة شيخ الإسلام ابن تيمية وأئمة هذه الدعوة، كلمة التزم وكلمة امتنع، الطائفة الملتزمة والطائفة الممتنعة.
لا يعنون بالالتزام القَبول، ولا يعنون بالامتناع عدم الفعل، وإنما يعنون بالالتزام أن يعتقد أنه مخاطب بهذا الواجب أو مخاطب بهذا التحريم، ويعنون بالامتناع أن يقول لست مخاطبا بهذا الإيجاب أو لست مخاطبا بهذا التحريم، فمن اعتقد شيئا من الاعتقادات الباطلة، أو قال: أنا أمتنع عن عملي؛ بمعنى لا يلزمني هذا العمل ولست مخاطبا به، هو واجب في نفسه؛ لكن أنا لا يجب علي، هو واجب؛ لكن أنا غير مخاطب به، ليس واجبا علي إنما يجب على غيري، كما هو صنيع طائفة من الصوفية الذين يقولون سقطت عنا التكاليف، أو يقول: أنا أمتنع عن قول كلمة الشهادة التي يحصل بها الإسلام والإيمان، يقول: أنا أمتنع عن ذلك؛ يعني أنا لا يلزمني هذا الشيء أو لا أقولها، ويكفي الإيمان بدون أن تقال هذه الكلمة هذا كله لم يدخل في الإيمان، وإذا حصل شيء من ذلك فإنه يخرج منه.
هذا تأصيل أهل السنة والجماعة للإيمان ولمضاده الكفر.
ولهذا جعل فقهاء أهل السنة والجماعة في باب المرتد في كتبهم الفقهية، جعلوا باب المرتد وقالوا: إن المرتد هو السلم هو الذي كفر بقول أو عمل أو اعتقاد.
إذا تبين ذلك من حيث الكفر؛ يعني يحصل سلب الإيمان بهذه الأشياء ونعني بها سلب أصل الإيمان فإنّ الحكم بعدم الإيمان الحكم بالتكفير بعد معرفة الكفر، بعد قيام الكفر بالمعين أو قيام الكفر بالطائفة، الحكم بالتكفير إنما هو لأهل العلم ليس لكل أحد؛ لأن تحقيق اتصاف هذا المسلم لمكفر من المكفرات حتى يُخرج من دين إلى دينه هذه مسألة إلى نظر عالم مجتهد فقيه يعرف الشروط ويعرف المونع ويعرف ما يعذر به المرء وما لا يعذر به ونحو ذلك حتى يتم هذا الأمر.
وإذا تقرر هذا فالأحكام هذه دائرة على الظاهر، بمعنى أنّ من قام به الكفر فهو كافر ظاهرا، ولا يقال له كافر ظاهرا وباطنا؛ يعني يكون كفرا يكون مرتدا كالمشركين في أحكام الدنيا والآخرة إلا إذا قامت عليه الحجة.
فهناك أحكام دنيوية وهناك أحكام أخروية، فأحكام الدنيا بحسب الظاهر وأحكام الآخرة بحسب الظاهر والباطن، والعباد ليس عليهم إلا الظاهر، وربنا جل وعلا يتولى السرائر.
فإذا أظهر طائفة كفرا أو معين كفرا فإنه يكفره العالم إذا قامت الشروط وانتفت الموانع يكفره بعينه، ومن قام به الكفر أو قام به الشرك سواء كان معذورا أو غير معذور؛ يعني لم تقم به الحجة فهو كافر ومشرك ظاهرا.
فإذن من قام به الشرك فهو مشرك؛ لأن كل مولود ولد على الفطرة، والله جل وعلا أقام الدلائل على وحدانيته في الأنفس وفي الآفاق، وهذه الدلائل حجة على المرء في أنه لا يعذر في أحكام الدنيا بارتكاب الكفر والشرك؛ نعني بأحكام الدنيا ما يتعلق بالمكلف من حيث علاقته بهذا الذي قام به هذا الشرك، من جهة الاستغفار له والأضحية عنه ونحو ذلك.
أما الأشياء التي مرجعها إلى الإمام مثل استحلال الدم والمال والقتال ونحو ذلك فهذه إنما تكون بعد الإعذار وقيام الحجة.
فهناك شيء متعلق بالمكلف من حيث هو هناك شيء يتعلق بالإمام.
فإذن صار عندنا أشياء متعلقة بالظاهر، وأخرى بالباطن، الباطن يتبعه بعض أحكام الدنيا كالاقتتال ونحو ذلك بعد إقامة الحجة والباطن يتبعه الأحكام الأخروية لقوله جل وعلا ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾[الإسراء:15]، لهذا أجمع أهل العلم على أن أهل الفَتْرة كفار مشركون لا يوصفون بإسلام ولا يقال عنهم إنهم ليسوا بكفار وليسوا بمشركين؛ بل هم كفار مشركون لأنه قام بهم الكفر والشرك وحالهم يوم القيامة من جهة التعذيب هذا على التفصيل المعروف عندكم في أهل الفترة والتحقيق فيه أن الله جل وعلا يبعث لهم رسولا في عرصات القيامة فمن أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار.
فمن قام به الشرك فهو مشرك، ومن قام به الكفر فهو كافر، والتكفير إنما لأهل العلم الحكم بالشرك أخف من الحكم بالكفر، ويقال: هؤلاء عبدة القبور أو الذين يستغيثون بغير الله يقال هؤلاء مشركون خرافيون، وإذا قيل إنهم كفار فهو صحيح باعتبار الظاهر؛ لكن لا تترتب عليهم أحكام الكفر كاملة، أحكام المرتد كاملة، وأهل العلم اختلفوا هل يعاملون معاملة المرتد أو معاملة الكافر الأصلي إن كانوا نشؤوا في ذلك ولم يكن ثم من يبين لهم على خلاف بينهم في ذلك.
المقصود من هذا تحرير أصل المسألة؛ وهو أن الكفر عند أهل السنة والجماعة يكون:
بالاعتقاد: إما بخلو القلب مما اعتقده من الإيمان، أو باعتقاد بشيء يناقضه يناقض أصل الإيمان.
عمل بخلوه من العمل أصلا لم يعمل خيرا قط، فاته جنس العمل، لم يعمل وإنما اكتفى بالشهادة قولا واعتقادا ولم يعمل جنس العمل، فهذا يسلب عنه أو عمِل عملا مضاد لأصل الإيمان.
وكذلك القول: قال، أو ترك القول.
هذه مسألة لاشك أنها مهمة، والأئمة كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم أوضحوا ذلك وبينوه وفي كلام أئمة الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وتلامذته وأبناءه في ذلك ما يشفي، لأنهم عاشروا المسألة وعاصروها مدة طويلة من الزمان أكثر من سنة فحرروها تحريرا بالغا. والله أعلم.
س2/ من يقيم الحجة على المخالف هل تتوفر فيه صفات معينة؟ صفة إقامة الحجة ومن يقيمها يعني؟
ج/ هذا خلاف الشرط، هذه مسألة؛ لكن الأصل أن الذي يقيم الحجة العالم، العالم الذي يعلم ما به يكون الكفر؛ ولكن إقامة الحجة كما ذكرنا هو راجع إلى أحكام الآخرة وإلى القتل والاستباحة، أما الحكم بالشرك والكفر فهو بمجرد قيامه قيام الكفر بالمرء قيام الشرك بالمرء، ذاك يمنع العذاب وهذا يمنع أحكام المكلف معهم.
س3/ من أخرج العمل عن مسمى الإيمان... لكن قالوا العمل ثمرة وليس من مسمى الإيمان، هل الخلاف بيننا حقيقي؟
ج/ الخلاف بيننا وبينة مرجئة الفقهاء حقيقي وليس لفظيا ولا صوريا ولا شكليا.
ومن حيث التنظير لا من حيث الواقع الفرق بيننا وبينهم أنه عندهم يُتصور أن يعتقد أحد الاعتقاد الحق الصحيح ويقول كلمة التوحيد ينطق بها ويترك جنس العمل؛ يعني لا يعمل عملا أبدا امتثالا لأمر الشرع، ولا يترك منهيا امتثالا لأمر الشرع، هذا عندهم مسلم مؤمن ولم لم يعمل البتة، وعندنا ليس بمسلم ولا بمؤمن حتى يكون عنده جنس العمل، ومعنى جنس العمل أن يكون ممتثلا لأمر من أوامر الله طاعة لله جل وعلا، منتهيا عن بعض نواهي الله، طاعة لله جل وعلا ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم أهل السنة اختلفوا هل الصلاة مثل غيرها؟ أم أن الصلاة أمرها يختلف، وهي المسألة المعروفة بتكفير تارك الصلاة تهاونا وكسلا، هذه اختلف فيها أهل السنة كما هو معروف، واختلافهم فيها ليس اختلاف في اشتراط العمل.
فمن قال يكفر بترك الصلاة تهاونا وكسلا يقول: العمل الذي يجب هنا هو الصلاة؛ لأنه إن ترك الصلاة فإنه لا إيمان له.
والآخر من أهل السنة الذين يقولون لا يكفر تارك الصلاة كسلا وتهاونا يقولون لابد من جنس عمل لابد من أن يأتي بالزكاة ممتثلا، بالصيام ممتثلا، بالحج ممتثلا يعني واحد منها، أن يأتي طاعة من الطاعات ممتثلا حتى يكون عنده بعض العمل أصل العمل؛ لأنه لا يسمى إيمان حتى يكون ثم عمل.
لأن حقيقة الإيمان راجعة إلى هذه الثلاثة النصوص القول والعمل والاعتقاد، فمن قال حقيقة الإيمان يخرج مها العمل فإنه ترك دلالة النصوص.
فإذن الفرق بيننا وبينهم حقيقي وليس شكليا أو صوريا.
هل هذا في الواقع مطبّق متصور أم غير متصور؟ هنا هو الذي يشكل على بعض الناس، يرى أنه لا يتصور أن يكون مؤمنا يقول كلمة التوحيد ويعتقد الاعتقاد الحق ولا يعمل خيرا قط يعني لا يأتي امتثالا لأمر الله ولا ينتهي عن محرم امتثالا لأمر الله، يقولون أن هذا غير متصور، ولما كان أنه غير متصور في الواقع عندهم صار الخلاف شكلي، كما ظنوه، لكن هذا ليس بصحيح لأننا ننظر إليها لا من جهة الواقع ننظر إليها من جهة دلالة النصوص فالنصوص دلت على أن العمل أحد أركان الإيمان، فإذا كانت دلت على ذلك فوجب جعله ركنا فمن خالف فيكون مخالفا خلافا أصليا وليس صوريا ولا شكليا خلافا جوهريا، هل يتمثل هذا في الواقع أو لا يتمثل؟ هذه المسألة الله جل وعلا هو الذي يتولى عباده فيها؛ لأنه العباد قد يفوتهم أشياء من حيث معرفة جميع الخلق وأعمال الناس وما أتوه وما تركوه، والله أعلم.
س4/ هل يمكن أن نقول إن الأعمال شرط كمال أو شرط صحة في الإيمان؟
ج/ هي ليست بشرط كمال ولا بشرط صحة، الأعمال ركن، ركن من أركان الإيمان، لا يُتصور الإيمان إلا بعمل، لا تقوم حقيقته إلا بعمل، الركن هو الذي تتم به أو تقوم به الماهية.
فمثل ما تقول: البيع يقوم على بائع ومشتري وصيغة وسلعة، إذا قلت: هناك بائع ومشتري وصيغة وليس هناك سلعة فهل يصير السلعة شرط صحة أو شرط كمال؟ هي ركن لأن بدون السلعة ما فيه حقيقة للبيع مع وجود البائع والمشتري والصيغة يعني كنت عاقد على أي شيء ؟ لم يتعاقدا على مثمن، فهكذا العمل، العمل ركن من أركان العمل.
المقصود به جنس العمل الذي أوضحته لك عند أهل السنة.
س/ إذا قلنا أن العمل ركن ألا يكون من ترك جزءا منها فقد انتفى عنه الإيمان؟
ج/ لأننا عندنا كلمة عبد الله بن شقيق: كانوا لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة، هذا إجماع نقل للإجماع، تقل للإجماع أنهم لا يرون عمل تركه كفر إلا الصلاة فلو ترك أي عمل لا يعد كافرا، حتى لو ترك الأركان الخمسة؛ يعني الأركان الأربعة الصلاة الزكاة الصيام الحج، هل يكون مسلما فيه خلاف بين أهل السنة، هل من ترك بيقية الأركان يعني بعد الصلاة الزكاة الصيام الحج من تركها تهاونا وكسلا جميعها هل هو مسلم أو غير مسلم يعني ما قام بين الشهادتين فيه خلاف بين أهل السنة؛ لكن لابد أن يكون قام بعمل طاعة لله حتى يكون أتى بأصل العمل يعني أدنى قدر منه.
هو لا يتصور أن أحدا مسلما إلا ويأتي بهذا، ما يتصور مسلم يقول أنا لا أعمل أي شيء ولا أترك محرما ولا أعمل أي طاعة، ما يتصور أن في قلبه إيمان أصلا.
س/ يا شيخ حديث« يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان» وبعض الأحاديث التي جاء فيها أنه لم يعمل خيرا قط، على أي شيء تحمل هذه الأحاديث؟
ج/ أما حديث «أخرجوا من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان» ثم قال «من كان في قلبه ذرة» إلى آخرها الحديث المعروف في الشفاعة فهذا ظاهر أنه في قلبه إيمان، وإذا كان في قلبه إيمان، هذا الإيمان لابد له من قول وعمل واعتقاد، هو قال في الأحاديث «من كان في قلبه» يعني نص على القلب لأن الإيمان ركنه الأعظم الاعتقاد، والاعتقاد في القلب، والقول ركن، والعمل ركن؛ ولكن الأعظم هو الاعتقاد، ولهذا نظر بعضهم إلى هذا الأصل الذي هو أنّ ركن الإيمان الأعظم هو الاعتقاد فجعل كل شيء يتعلق بالإيمان هو بالاعتقاد، وهذا غير صحيح.
فقوله «من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان» يعني من الإيمان الشرعي، ليس هو الإيمان اللغوي الذي هو التصديق الجازم، لا، وعبر في قلبه لأن الاعتقاد هو الركن الأعظم يكون القول تابعا له، يدل على ذلك أن إبليس في قلبه من حيث الاعتقاد إيمان بالله وبوحدانيته وإيمان باليوم الآخر قال ﴿فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾[ص:79]، وإيمان بالملائكة وإيمان بالرسل إلى آخره؛ يعني عنده إيمان من هذه الجهة، يعني من حيث التصديق بما أخبر الله، وإبليس ما نازع الله جل وعلا في تصديق الخبر، وإنما نازعه في امتثال الأمر، فحق الله جل وعلا على عباده شيئان:
· تصديق الأخبار.
· وطاعة الأوامر.
والأمر والخبر شيء لأن الجمل إما أن تكون إنشائية أو خبرية، فالخبرية مدارها التصديق، والإنشائية طلب افعل أو لا تفعل، من حيث التصديق إبليس مصدّق ولكن منعه الكبر عن امتثال الأمر، وهو أحد نوعي ما يجب للرحمن جل وعلا، ولهذا قال الله جل وعلا في حقه ﴿إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾[البقرة:34]، والإباء والاستكبار راجعان إلى عدم امتثال الأمر في حق إبليس.
فإذن قوله «مثقال ذرة من إيمان» إنما المقصود بها الإيمان الشرعي ليس مجرد التصديق لأنه قال عنهم ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ﴾[النمل:14]، وفرعون عنده شيء من ذلك في آخر أمره وهكذا.
لهذا ذهب طائفة من ضلال الصوفية إلى إيمان فرعون كابن عربي كالجلال [الدّواني] في رسالة له وجماعة بأنه قال كلمة الإيمان قبل موته.
س/ ......
ج/ جحد أي شيء؟ إذن رجع إلى الأمر، كيف جحد الأمر؟ إذا قلت جحد الامتثال معناه ما امتثل، الجحد هو يخاطبه الله جل وعلا الآن، ما فيه جحد هو يخاطبه هو الآن رب العالمين، خاطب الملائكة ما فيه جحد للخبر ما فيه حجد الخبر، هو يعلم أن الذي خاطبه رب العالمين ما جحد الحقيقة؛ لأن الله هو الذي خاطبه، ما جحد الخبر ولا جحد؛ لكنه استكبر عن امتثاله لأن آدم خلق من كذا وإبليس خلق من كذا، فمنعه الكبر فلهذا جاء في الآية اثنين أبى واستكبر، الإباء راجع للظاهر والاستكبار راجع للباطن، أبى واستكبر الإباء في الظاهر أبى أن يسجد والاستكبار في داخله قال ﴿قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ﴾[الإسراء:62]، هو منعه الكبر، فإذن صار من أنواع الكفر، كفر الجحود هذا شيء، ومن أنواعه كفر الإباء والاستكبار مثل فعل إبليس.
ولو قيل إنه لا يكفر أحد إلا بالجحد، لصار الأمر إلى أنه لا يكفل نوع واحد وهم المعاندون، وهذا يبطل أصول الشريعة وما جاء في القرآن والسنة، إذا قيل لا يكفر إلا الجاحد معناه لا يكفر إلا المعاند، والله جل وعلا بين أن الذي يأبى يكفر، والمستكبر يكفر، وبيّن أن المعرض يكفر، وأن الساحر يكفر إلى آخر أنواع الكفار، هؤلاء كلهم ليسوا بجاحدين لكنهم مارسوا شيئا من الكفر فكفروا.
س/ شيخ هناك جحود واستحلال أيضا...؟
ج/ هذا غير الجحد، الاستحلال هو جعل هذا الشيء حلال، قد يكون يجعله حلالا بالاعتقاد يعتقد أن هذا حلال ليس بحرام، وقد يكون يجعله حلالا بالهيئة، وإن كان باطنه لا يعتقد أنه حلال، هذان نوعا الاستحلال في النصوص.
الثاني كما في قوله «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف» لو استحلوا فكفروا لم يكونوا من أمة الإجابة، فقال «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون» فهذا الاستحلال عملي لا يخرجهم يعني ظاهرهم من استمرائهم له واستخفافهم به على أنه حلال، هؤلاء لا يكفرون.
هذا ليس النوع الذي يقصد به أهل السنة ولا الذين يتكلمون في الإيمان والكفر إذا استعلموا يستحله، إنما يعنون بقوله لا نكفر أهل القبلة بذنب ما لم يستحله؛ يعني إلا إذا استحله لا نكفر أحدا بذنب إلا إذا استحله؛ يعني باعتقاد أن هذا حلال لم صار كفرا؟ لأنه رجع إلى تكذيب النص، فالنصوص جاءت بأنه حرام فهو جعله واعتقده أنه حلال، وهو في الحقيقة في هذه المسألة مكذب للنصوص.
ولهذا مسألة الكبائر في استحلالها اعتقاد أنها حلال، فرجع الكفر إلى الاعتقاد الذي حقيقته التكذيب، فنظر من نظر إلى هذه المسألة -مسألة الكبائر- فذهب ذهنه أن كل كفر هو ذلك، أنه هو التكذيب؛ لأنه بالنسبة لاستحلال المعصية نعم هو استحل وحقيقة استحلاله أنه كذب بأن الله أوجبه؛ لأنه في القرآن أن الله حرم الخمر وهو يعتقد أنها حلال، في القرآن أن الله حرم الربا هو يعتقد أن الربا المجمع على تحريمه أنه حلال، هذا في الواقع تكذيب للنص، فرجعت هذه المسألة إلى التكذيب، ومن ثم قال بعضهم إن التكفير يرجع إلى التكذيب من جهة النظر إلى هذه وربما مع شبه أخرى، وهذا لاشك غلط على أهل السنة.
س/ ...؟
ج/ وهذه لكل شخص ما يناسبه، فلا يطلق القول بالجواز في حق كل واحد، فالناس يختلفون الناس، الناس يختلفون، فمنهم من يكون السفر في حقه جائزا، ومنهم من سيكون السفر في حقه مستحبا، ومنهم من يكون السفر في حقه ممنوعا محرما.
وهذا راجع إلى تأصيل وهو أنه لا يجوز لأحد أن يسافر إلى بلاد المشركين أو إلى دار الكفر إلا إذا كان:
يمكنه إظهار دينه هناك هذا شرط.
والثاني أن يكون عنده برد ترد على دينه في تلك البلاد حتى لا يعرض نفسه إلى الفتنة.
لأن الأصل أن الهجرة من بلد الكفر إلى بلد الإسلام واجبة، إلا إذا كان المرء يستطيع أن يظهر دينه ولا يكون ذليلا في بلد الكفر فإنه يستحب في حقه أن يهاجر.
بالمقابل السفر يكون السفر في حق بعض الناس مستحبا إذا كان يستطيع أن يظهر دينه هناك وأن يدعوا إلى الله فيكون في سفره مصلحة، ومنهم من يكون السفر في حقه جائزا إذا كان يسافر مع وجود شروط الجواز وهو أن يكون مظهرا لدينه؛ أن يكون فقيها في شبه المشركين وكيف يرد عليها حتى لا يتأثر وأن لا يكون ممن ينزلقون في الشهوات ونحو ذلك.
والأكثرون في حقهم يمنع السفر إلى بلاد الكفر؛ لأنه في حق الأكثر من المسلمين فتنة، وأكثر المسلمين كما تعلم لا يفقهون معنى إظهار ولا يفقهون حجج دينهم، ولا رد شبهات المشركين، أو الانبهار بهذا الموجود و قلّ أن يكون أو يكون قلبه مستقيما مطمئنا للإيمان هذا عند كثيرين مفقود، فإذن الأصل هو المنع المسلمين إلى دار كفر لما فيها من الضرر في دينه، قد يجوز في حق بعض الناس وقد يستحب في حق آخرين إذا كان ثم مصلحة راجحة.
س/ ...؟
ج/ الكلام على الذي يسافر، أما وجودهم هناك هذا شيء آخر، الكلام على مسلم في دار الإسلام يريد أن يسافر إلى تلك البلاد، هذا بحسب حال هذا المعين، لا ينطبق هذا بقاعدة عامة إلا على هذا التأصيل؛ لكن من حيث المعين لابد هو يسأل ويتحرى، هو يعرف نفسه، الواحد أعرف بنفسه، من الناس من يكون ضعيف، هذا يعرض نفسه للفتنة إذا سافر إلى بلاد الكفر، هذه الحالة الأصل، نعم بعض الناس قد مضطر في بلاده يصيبه إيذاء في بلده لا يستطيع يقيم شعائر دينه، مستخفي كما في بعض الأنظمة ونحو ذلك، هذا كل حالة لها ما يحكمها، ما نجيب بإجابة عامة للجميع بل كل حالة لها ما يناسبها.
س/ ....؟
ج/ هذه لا تعارض تلك؛ لأن آدم عليه السلام نبي، وذريته ولدت على الفطرة وهكذا لم تغير حتى صار زمن نوح فاجتالتهم الشياطين عن دينهم، فصار الشرك أول شرك بالله هو شرك قوم نوح، هذا انحراف على الفطرة، هذا الانحراف على الفطرة قاد معناه حدث بعد زمن خلق الإنسان وتتابع الأجيال، وقد قيل في التفسير: إن بين آدم ونوح ألف عام وقيل أكثر.
إذا كان كذلك فقوله جل وعلا ﴿وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ هذا راجع للتكليف؛ لأن الأمانة في الآية هي التكليف على الصحيح من الأقوال ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾[الأحزاب:72]، يعني عُرضت هذه الأمانة العظيمة وهي أمانة التكليف على الإنسان، وعُرضت قبل ذلك على الجبال وعُرضت على الأرض فأبى أولئك أن يحملوها وحملها الإنسان، وكان من وصفه حين حملها أنه ظلوم -وهو مما ركب فيه- كما رُكب فيه أنّه عجول وأيضا جهول بالعاقبة، لأنه ظن أنه يتحمل أو من بعده يتحمل، والواقع أنه تحمّل ذلك وصبر عليه من صبر ولكن اجتالت الشياطين الناس على دينهم بما رُكِّب فيهم من عدة وهذه عامة في كل إنسان بحسب فيه ظلم وجهل بحسبه.
ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيره من الفقهاء والعلماء القضاء في الشهادات: أن الأصل في الإنسان ليس هو العدالة، أن الأصل في الإنسان غير العدالة لأن الله وصف الإنسان بقوله ﴿وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ فجعل الأصل في الإنسان الظلم والجهل وهذا خلاف العدالة. هذا هو القول الصحيح.
طبعا هذا خلاف قولنا أن الأصل في المسلم العدالة، ينتبه.
س/ ... ؟
ج/ لا، هو الله جل وعلا قال ﴿وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾[الأحزاب:72]، و﴿إِنَّهُ﴾ كما هو مقرر في العلة في الأصول قوله ﴿إِنَّهُ﴾ هذا راجع إلى التعليل، تعليل لحمله إياها، حملها الإنسان، لماذا قبِل الإنسان ورفضت السموات ورفضت الأرض ورفضت الجبال؟ بسبب أن الإنسان رُكِّب من الجهل؛ ففيه ظلم وفيه جهل. هذا تعليل ﴿وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ تعليل لقبوله لأنه فيه ظلم وفيه جهل، ظلم لنفسه كيف يقبل مثل هذا الشيء العظيم وجهل بالعاقبة.
تعليق