عقيدة الإمام الشوكاني
يرى " الشوكاني " أن طرق المتكلمين لاتوصل إلى يقين ، ولا يمكن أن تصيب الحق فيما هدفت إليه ، لأن
معظمها ـ كما يقول ـ قام على أصول ظنية ، لا مستند لها إلا مجرد الدعوى على العقل ، والفريه على
الفطرة .فكل فريق منهم قد جعل له أصولاً تخالف ما عليه الآخر ، وقد أقام هذه الأصول على ما رآه عنده هو
صحيحاً ، من حكم عقله الخاص المبني على نظره القاصر ، فبطل عنده ما صح عند غيره ، وقاسوا بهذه
الأصول المتعارضه كلام اللّه ورسوله في الإلهيات وما يتصل بها من العقائد ، فأصبح كل منهم يعتقد نقيض ما
يعتقده الآخر .
ثم جعلوا هذه الأصول معياراً لصفات الرب تبارك وتعالى ، فأثبتوا للّه تعالى الشيء ونقيضه ، ولم ينظروا إلى
ما وصف اللّه به نفسه ، وما وصفه به رسوله ، بل إن وجدو ذلك موافقاً لما تعقلوه ، جعلوه مؤيداً له ومقوياً ،
وقالوا : قد ورد دليل السمع مطابقاً لدليل العقل ، وإن وجدوه مخالفاً لما تعقلوه ، جعلوه وارداً على خلاف
الأصل ومتشابهاً وغير معقول المعنى ، ولا ظاهر الدلاله ، ثم قابلهم المخالف لهم بنقيض قولهم ، فافترى على
عقله بأنه قد تعقل خلاف ما تعقله خصمه ، وجعل ذلك أصلاً يرد إليه أدلة الكتاب والسنه ، وجعل المتشابه عند
أولئك محكماً عنده ، والمخالف لدليل العقل عندهم موافقاً له عنده .
ومن مظاهر هذا التناقض : ما وقع فيه المعتزلة من مبدأ نفي الصفات ، بناء على مبدئهم في التنزيه ، وما
غلا الأشعرية من الوقوع في التجسيم ، بناء على ما ذهبوا إليه من التأويل ، والمبالغة في الإثبات.
* يقول الشوكاني عن هذه المسائل :
" و إن كنت تشك في هذا ، فراجع كتب الكلام ، وانظر المسائل التي قد صارت عند أهله من المراكز ، كمسألة
التحسين والتقبيح ، وخلق الأفعل ، وتكليف مالا يطاق ، ومسألة خلق القرآن ، فإنك تجد ما حكيته لك بعينه " .
لذلك : كان المسلك القويم في الإلهيات ، والإيمان بما جاء فيها ، هو مسلك السلف الصالح ، من الصحابة
والتابعين ، من حمل صفات الباري على ظاهرها ، وفهم الآيات والأحاديث على ما يوحيه المعنى اللغوي العام
، وعدم الخوض في تأويلها ، والإيمان بها على ذلك ، دون تكلف ولا تعسف ، ولا تشبيه ولا تعطيل ، وإثبات ما
أثبته اللّه ـ تعالى ـ لنفسه من صفاته ، على وجه لا يعلمه إلا هو ، فإنه القائل جل شأنه " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ
وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ " . فأثبت لنفسه صفة السمع والبصر ، مع نفي المماثلة للحوادث في الوقت نفسه.
والإمام الشوكاني قد اعتنق هذا المبدأ ، وجعل عمدته في الدعوة إلى مذهب السلف هاتين الآيتين الكريمتين :
أولهما قوله تعالى : " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ".
وثانيهما قوله تعالى : " يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ".
ففيهما الإثبات والنفي ، إثبات صفات الباري ـ جلَّ شأنه ـ ونفي مماثلة هذه الصفات للحوادث ، ثم تقييد هذا
الإثبات بظاهر ما صرحت به الآيات وأجملته ، والزجر عن الخوض في كيفية هذه الصفات .
وقد سجل الشوكاني آراءه ومذهبه في ثنايا كتبه المختلفه ولاسيما كتابيه :
1 ـ " التحف في مذاهب السلف " .
2 ـ " كشف الشبهات عن المشتبهات " .
هذا ، وقد اعتنق الشوكاني هذا المذهب بعد طول بحثه ومطالعة في كتب " علم الكلام " حتى صرح بأنه لم
يعتنق مذهب السلف تقليداً ، وإنما عن إجتهاد و اقتناع .
ولذلك يقول :
" ولتعلم أني لم أقل هذا تقليداً لبعض من أرشدك إلى ترك الاشتغال بهذا الفن ، كما وقع لجماعة من محققي
العلماء ، بل قلت هذا بعد تضييع برهة من العمر في الاشتغال به ، وإحفاء السؤال لمن يعرفه ، والأخذ عن
المشهورين به ، والإكباب على مطالعة كثير من مختصراته و مطولاته ، حتى قلت عند الوقوف على حقيقته أبياتاً منها :
وغاية ما حصلته من مباحثي *** ومن نظري من بعد طول التدبر
هو الوقف ما بين الطريقين حيرة *** فما علم من لم يلق غير التحير
على أنني قد خضت منه غماره *** وما قنعت نفسي بدون التبحر
فرحمه الله تعالى وأعلى درجته ونفع أهل السنة بعلومه.