((( وأنا أتابع ـ بشفقة ـ تتابع أحداث مُعارضة الفقيه ، وكيف تسلسلت الدعوات من مُظاهرة سلميّة إلى المواجهة المُسلّحة والدفاع عن النفس ، وإِشاعة الفوضى والاعتصام والعصيان ... الخ . تذكرتُ مُحاضرة شيخنا صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ ـ حفظه الله ـ ( الضوابط الشرعية لموقف المسلم في الفتن ) ) ، والتي رسم فيها منهجا شرعيا للتعامل مع الأحداث والمُستجدات ، كانت المُحاضرة على ما أذكر سنة 1411 هـ ولا يخفاكم الأحداث المُزعجة في تلك السنوات ، لكنها لا تُقارن بما نعيشه الآن ! تلك المُحاضرة أثّرت في صفوف الشباب ، خاصّة بعد طباعتها ؛ لما فيها من طرحٍ مُعتدلٍ واضحٍ ، وتأصيلٍ علميٍ رصين يُلامس الواقع بمنظورٍ شرعي مُحكم . طافت في ذهني عبارات ارتسمت في مُخيّلتي ورجعتُ إلى المُحاضرة لتحرير بعض الجُمل فهي من نفيس العبارات وغالي الكلِم .
أوّل تلك الضوابط : ( عليك بالرفق ، وعليك بالتأني ، وعليك بالحلم ) أهـ
دماء الغيرة التي تغلي في عروقك قد تكون سبب انحرافك ، ورُبما فوّتَ على نفسك من الخير الكثير بسبب العجلة والشدّة ، وأكثر الذين يستجيبون لداعي الفتنة من أهل الطيش وعدم التروّي .
ثاني الضوابط : ( إذا برزت الفتن وتغيرت الأحوال ، فلاتحكم على شيء من تلك الفتن أو من تغير الحال إلا بعد تصوّره ) أهـ .
الكثير من الذين دخلوا في الفتن وخاضوا غمارها بنوا تصوّرهم بعد تحليلات خاطئة ، أو كانت نتيجة ردة فعل لما يُشاهده أو يسمعه أو يتناقله الناس في الإنترنت أو المجالس ، والتصوّر الصحيح لا يمكن أن تأخذه من مقال أو خبر أو موضوع في منتدى من المنتديات .
ثالث الضوابط : ( أن يلزم المسلم الإنصاف والعدل في أمره ) أهـ .
لم أسمع للمُعارضة أو للمُفجرين أو غيرهم من الذين اتخذوا مواقف مُصادمة ضد الدولة ذكرا للجوانب الإيجابية ، الذي نسمعه في قنواتهم وبياناتهم ومنتدياتهم الجوانب السيئة والنواقص والسيئات والعيوب مع ما فيها من تضخيم وكذب وحتى مع وجود بعض الحقائق أين صفة العدل والقسط ؟! ما هو هذا المنهج الإصلاحي أو الجهادي الذي يبني خطابه على رُكامٍ من الشتائم والنقائص والمعايب ؟! نحن نرى بعض النقص لكننا في المقابل نرى ونلمس الكثير من الحسنات سواءً على المستوى الديني أو الدنيوي .
رابع الضوابط : ( ما دلّ عليه قول الله جل وعلا : ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) أهـ .
الالتفاف حول أهل العلم وحول الأمراء وسدّ الطريق على كلّ مُغرضٍ مثير للفتنة والفرقة ، فإن النقص والأخطاء مع الاجتماع أقلّ بكثير من النقص والأخطاء مع الفرقة .
الفرقة تعني الفوضى والانفلات وضياع الحقوق ، وانظر أقرب دليل تسلسل الأهواء والانحرافات عند مُدّعي الجهاد : ففي البداية قالوا نحن نريدُ إخراج المشركين من جزيرة العرب ، ثم أجازوا لأنفسهم قتل غير المُشركين واستدلوا بالتترس ، ثم تقصّدوا فعلا قتل المُسلمين من العسكر والجُند وقالوا : هؤلاء مُرتدون !! الأهواء ليس لها حدّ في الانحدار ، وإذا تمكّن أمثال هؤلاء لن يقفوا عند حلال أو حرامٍ ولن يرعوا حُرمة مسلم أو مُسلمة وقد شاهدنا كيف زجّ الفقيه ودعاته بالنساء للتظاهر وسط حشود من الرجال !
خامس الضوابط : ( أن الرايات التي تُرفع في الفتنة لابد للمسلم أن يزنها بالميزان الشرعي الصحيح ) أهـ
ينقضون العهود ويخونون الأمانة ويقتلون عباد الله المسلمين تحت راية الجهاد ! والآخرين .. يشتمون ويكذبون ويُحرضون تحت راية الإصلاح !! لا شكّ أنها عبارات جذابة .. حتى الذين خرجوا على عثمان وعلي رضي الله عنهما كانوا يرفعون شعار ( لا حُكم إلا لله ) .
سادس الضوابط : ( ليس كل مقال يبدو لك حسنا تظهره ) أهـ .
وهذا من فقه شيخنا ـ حفظه الله ـ فقد بوّبَ البخاري بابا أسماه : ( باب : من تركَ بعض الاختيار مخافة أن يقصر الناس عن فهمه فيقعوا في أشد منه ) واستدل بحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ وفيه قصة ترك هدم الكعبة وبناءها على قواعد إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ . وكره الإمام أحمد التحديث بالأحاديث التي فيها الخروج على السلطان وأمر أن تُشطب من مُسنده ، مع أنها حق .. ومع أن السلطان ظلمه وابتلى المسلمين في ( عقيدتهم ) وليس ي أموالهم ودنياهم ، مع ذلك يقول : ( لا خير في الفتنة ولا خير في الخروج ) .
سابع الضوابط : ( موالاة المؤمنين وخاصّة العلماء ) أهـ .
هناك من يُدندن حول عقيدة الولاء والبراء ، وإذا تأملتَ في أقواله وجدته يقع في أعراض المسلمين وخاصّة أهل العلم ، ويتهمهم في نيّاتهم ومقاصدهم وينسبهم إلى الضلال والهوى ! هذا التناقض يدلك على فساد المنهج وقلة العلم ، وقد تعلمنا من التجارب أن منهج العلماء في الفتن أسلم وأحكم ، وطريقتهم هي الأقرب إلى الأصول الشرعية وإن لم تُروي العواطف والمشاعر المُلتهبة ، فالهدف إقامة شرع الله وتحقيق المقاصد الشرعية ليس إشباع العواطف وإلهابها .
ثامن الضوابط : معرفة الفرق بين التولّي المُكفّر والمُوالاة غير الجائزة .
أكثر المقالات والشُّبه التي ظهرت نشأت نتيجة طبيعية للانحراف في فهم لمسألة الموالاة ، العلماء يُفرقون بين التولي والموالاة .. أما ذاك المبتدئ أو المثقف أو حتى الغيور الذي يسمع من يقول له : الدولة كافرة لأنها والت الكفّار ، فإنه يبني تصوّره ومواقفه على هذا الحُكم الخاطئ .
فالتولي المُكفّر : هو نُصرة الكافر على المُسلم قاصدا ظهور الكفار على المُسلمين . فأصله : المحبة التامّة أو محبة الكافر لدينه وتوليه التولّي الكامل . أمّا الموالاة غير الجائزة : فهي مودتهم ومحبتهم لدنياهم ، .. وهذه ليست كفرا .
فإذا تأملتَ ذهاب الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ بأمر النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي النصراني ، هل هذا من الموالاة أو التولي ؟ واستعانة النبي صلى الله عليه وسلم بالمُطعم بن عدي هل تعتبر من موالاة الكفار ؟ وإعارة صفوان بن أمية ـ وهو على شركه ـ المسلمين أدرعا في غزوة هوازن هل هي موالاة ؟ فعلى قاعدة هؤلاء نعتبر كل تعامل مع الكفار موالاة مُكفّرة !
فإن قالوا : الدولة أعانت الكفّار على المُسلمين . قلنا لهم : لا يُمكن أن نبني الحُكم الشرعي على مصادركم : ( أخبار ، نقولات ، صحف ... الخ ) والمسؤول ( المُسلم ) أعلن أن الدولة لم تُساهم ولم تُساعد والأصل في المُسلم السلامة والصدق . وعلى فرض وقوع المُساعدة ، هل كانت المٌساعدة لأجل محبة الكفر وظهوره على الإسلام ؟ فهذا كما سبق التولي المُكفّر ، أم أنها خوفا من هذا الكافر المُعتدي أو لأجل مكاسب دنيوية ؟ فهذا غير مُكفّر كما حصل للصحابي الجليل حاطب بن أبي بلتعة ـ رضي الله عنه ـ الذي أفشى سرّ النبي صلى الله عليه وسلم وجيش المسلمين للكفّار وهم في حالة حرب مع المشركين ، ومع ذلك لم يُكفره المصطفى صلى الله عليه وسلم بعد أن استفسر منه النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما حملك على ما صنعت ؟ ) ، قال : أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي ... والحديث عند البخاري ومسلم . حسب فهم الذين ضلوا في مسألة الولاء يلزمهم تكفير الصحابي ـ رضي الله عنه ـ ؛ لأنه أعان الكفّار ، بل .. أفشى أسرار الحرب وجيش المسلمين .
فإن قالوا : لم يُكفره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأنه من أهل بدر . قلنا : لو كان السبب ذلك لما احتاج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاستفسار ومعرفة السبب من حاطب ـ رضي الله عنه ـ ، لذلك يقول ابن كثير : ( ولهذا قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عذر حاطب لَمّا ذكر أنه إنما فعل ذلك مصانعةً لقريش لأجل ما كان له عندهم من الأموال والأولاد ( 4/ 410 .
ورسالة شيخنا هذه تحتوي على الكثير من الفوائد العلمية والمنهجية التي نحتاجها عند حلول الفتن . ولمن أراد الاستزادة يجد الرسالة على هذا الرابط :
http://saaid.net/Minute/m61.htm
سائلا المولى سبحانه أن يردّ كيد المُغرضين ، وأن يُخيب ظنهم وأملهم ، وأن يحمي البلاد والعباد من فتنتهم .
وقد شاهدنا ولله الحمد مع تتابع الفتن اجتماعا للعلماء والدعاة والمُصلحين وإجماعا يُثلجُ الصدر ويكيدُ أهل الفتنة والزيغ . وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
وكتبه عبدالمنعم بن سليمان المشوح )))
تعليق