حين يُعطيك الله مالاً، فكن شاهداً على كرمه

Collapse
X
 
  • الوقت
  • عرض
Clear All
new posts
  • ساندروز
    المدير العام

    • Sep 2000
    • 12010

    #1

    حين يُعطيك الله مالاً، فكن شاهداً على كرمه

    في حياة الإنسان محطات تتقاطع فيها الأقدار بالاختبار، وتظهر فيها النعم في صورة عطايا قد يغبطه عليها الناس، أو يفتتن بها إن غفل عن أصلها. ومن أعظم تلك النعم: نعمة المال.

    جاء في الحديث الشريف:

    إذا آتاك الله مالاً، فليُر أثر نعمة الله عليك.
    وهو توجيه نبوي عميق، يجمع بين الاعتراف بالفضل، والإحسان في إظهاره، دون إسراف أو رياء، ودون تصنّع أو تعالٍ. والحديث كلمات قليلة، لكنها تحمل من المعاني ما يكفي لتقويم سلوك أمة، ومن الحكمة ما يُغني عن مئات المواعظ. ليست دعوة إلى التباهي، ولا إشارة إلى التفاخر، بل هي حثّ على أن تكون النعمة سببًا في شكرك لله، وأن ينعكس هذا الشكر في سلوكك، ومظهرك، وأسلوب حياتك.

    المال في حقيقته أداة، ومن ظنه غاية فقد خسر. هو أمانة مؤقتة، وعارية زائلة، بين يديك اليوم، وقد تكون في يد غيرك غدًا. والله جل في علاه لا يُعطي المال حُبًا، ولا يمنعه بُغضًا، بل هو فتنة للموسر والمُعسر على حد سواء. والشأن كل الشأن في من عرف قدر النعمة، فلم يكفر بها، ولم يكتمها، ولم يبددها.

    فما أعظم أن ترى على المرء أثر النعمة التي أنعم الله بها عليه، لا من باب الفخر، بل من باب الشكر. أن ترى على وجهه طلاقة، وعلى ثوبه نظافة، وعلى بيته نظامًا، وعلى أولاده سترًا ورفقًا وتربية. أن لا يكون المال حبيس الخزائن، ولا أسير الأرصدة، بل أداة حياة، وزينة حلال، ووسيلة إعمار.

    كم من أناس رزقهم الله رزقًا واسعًا، فاستحوا من إظهاره، وكأن المال عيب! وكم من أناس جعلوا من أموالهم صروحًا للعلو في الأرض، وميادين للكبرياء والتعالي على الناس! وما بين هؤلاء وأولئك، فئةٌ اختاروا أن يكونوا خلفاء لله في نعمته، فأظهروا المال فيما يُرضيه، وسخّروه فيما يحب، وأظهروا أثره من غير فُحش ولا رياء.

    تخيل من يُرزق بثروة ثم يعيش وكأنه معدم: لا ينفق على نفسه، ولا على أهله، ويمشي بثوب باهت، وحذاء ممزق، فيُسأل "لمَ هذا؟" فيرد: "أخشى الحسد". هذا ليس حذرًا محمودًا، بل جهلٌ بأصل النعمة. وفي المقابل، ترى من يلبس أحسن الثياب، ويُكرم زواره، ويُنفق على تعليم أبنائه، ويعين المحتاجين، دون أن يتكلم عن رصيده أو يُظهر شيكًا على وسائل التواصل.

    فلير أثر النعمة في الكلمة الطيبة، وفي العطاء الكريم، وفي الرحمة بالمساكين. فلير أثرها في عيالك، فلا تحرمهم من زينة الدنيا وأنت تملكها، ولا تلبسهم الخشن وأنت تستطيع النعيم. فلير أثرها في سلوكك، لا تصنعًا، بل رفعة أخلاقٍ، وسماحة طبع.

    خذ مثلًا الرجل الذي أنعم الله عليه بمزرعة جميلة، بدل أن يغلق أبوابها على أهله فقط، جعلها مفتوحة للضيوف والأصدقاء، وأقام فيها ولائم الخير، وجعل جزءًا منها وقفًا لزراعة التمر يُوزّع على الأرامل سنويًا. أو تلك السيدة التي رُزقت بمال وفير، فأنشأت فصلًا دراسيًا لتعليم الفتيات الأيتام، بدلاً من الاكتفاء بحقيبة يد فاخرة كل شهر.

    ومن الجهل أن تُظن النعمة تُشكر بالكتمان، أو أن إظهار النعمة مرادفٌ للرياء. فمن الناس من إذا لبس الجديد أو ركب الفاخر قال: أخاف الحسد. ونسي أن الحسد لا يمنعه كتمان، وإنما يمنعه التحصين، والنية الطيبة، والدعاء.

    بل إن كتمان النعمة قد يكون جحودًا، وقد يجعل الفقير يظن أن الغنى لم يُغيّر صاحبه في شيء، فيقع في اليأس أو الحسد أو الظن السيئ بالله. لكن حين يرى أثر النعمة مقرونًا بالحياء والتواضع والكرم، فإنه يُحب الغني، ويُحب أن يُرزق مثله، ويستبشر برزق الله، ويثق أن الدنيا ليست دار بخل.

    وما أجمل الغني المتواضع، الذي إذا رآه الناس علموا أن المال لم يُغير قلبه، وإنما زاده إحسانًا، وزاد في قربه من الناس. الذي لا يرفع صوته في الأسواق، ولا يفاخر بعدد العقارات، ولا يُشعر من حوله أنهم أقل منه. بل إذا جلس مجلسًا لا يُعرف فيه من الغني ومن الفقير، وإذا تصدّق لم تُسمع منه كلمة، وإذا مرّ على مسكين ابتسم له ولم يُعرض عنه.

    وقد قيل: إذا أنعم الله عليك بنعمة، فأحسن لباسك، وزيّن دارك، وجمّل وجهك بالبشر، فإن هذا من شكر النعمة. ولا خير في غنيّ يعيش عيشة الفقير بخلاً، ولا في فقير يتمنى زوال النعمة عن الغني حسداً. لكن الخير كل الخير في أن تُرزق، وأن تشكر، وأن تظهر شكر النعمة فيما لا يُخالف شرعًا، ولا يخدش حياءً، ولا يثير فتنة.

    وبين إظهار النعمة والتفاخر بها شعرة، من تخطاها سقط. فإياك أن تتزين لتُعجب الناس، أو أن تُنفق ليقال عنك كريم. اجعل نيتك وجه الله، واجعل أثر النعمة دليلاً على رضاك بقدره، وحرصك على رضاه. وإن الله جميل، يحب الجمال، فإذا رزقك فجمّل، وإذا وسّع عليك فلا تضيق على نفسك.

    واعلم أن أول من يشهد على شكر النعمة هم أهل بيتك، فإن رأوا منك إحسانًا وسعة وطيب عيش، علموا أن المال لم يُنسك حقهم. ابدأ شكر النعمة من بيتك، ثم وسّعها إلى جارك، ثم إلى مجتمعك، حتى تُصبح مصدر خير وطمأنينة.

    ولا يكن مالك سبيلاً إلى العزلة أو الغرور، بل اجعله سبيلاً إلى الوصل، إلى المودة، إلى أن تُذكر في المجالس بالخير. أن يقولوا: نعم الرجل، وسّع الله عليه، فما حرم، ولا تكبّر، ولا بخل، بل كان للناس عونًا، وللضعفاء سندًا.

    فإنك إن شكرت، زادك الله، وإن كتمت النعمة جحدًا، فقد تُسلب وأنت لا تدري. وإن أظهرتها رياءً، فلا أجر لك، بل وزرٌ قد يُثقل كاهلك. فليكن ميزانك الاعتدال، وليكن شعارك التواضع، ولتكن يدك بالنعمة يد بناء لا يد هدم.

    اذكر أن من شكر النعمة: أن ترى نعمة غيرك فلا تحقرها، وأن ترى فقيرًا فلا تزدريه. وأن يكون قلبك دائمًا حاضرًا مع الله، يعلم أن المال من رزق الله، وأن حفظه بالشكر، لا بالتخزين، ولا بالبذخ.

    ومن أعظم صور شكر النعمة أيضًا أن تعين بها على طاعة الله، في حج أو عمرة، أو في بر والدين، أو إصلاح ذات بين، أو بناء مسجد، أو كفالة يتيم. وإن لم يُرَ أثر النعمة عليك، فأين الشكر؟ وإن لم يظهر فضل الله في سلوكك، فما الفرق بينك وبين من لا يملك شيئًا؟

    فلترَ نعمة الله في هندامك، في بيتك، في أخلاقك، في عطائك، في نظافة يدك، في رحمتك بالفقراء. هكذا يكون المال بركة، وهكذا يُرضى عنه، وهكذا يُستخدم في رفعك في الدنيا والآخرة.

    وفي الختام: إذا آتاك الله مالًا، فليُر أثر نعمة الله عليك… في نفسك، في أهلك، في عملك، وفي الناس من حولك… لا رياءً ولا تباهيًا… بل شكرًا وحياءً ورضا…

    #حكمة
    آخر تعديل بواسطة ساندروز; 20-06-2025, 06:44 PM.


    هاتف:
    0055-203 (715) 001
    0800-888 (715) 001

  • معاوية
    المشرف العام
    • Feb 2000
    • 354

    #2

    شكرًا لك على هذا الطرح العميق والمُلهم. لقد لمستَ جانبًا مهمًا في علاقتنا بنعمة المال، وأعجبتني دعوتك المتزنة لإظهار النعمة دون رياء، وشكرها دون مبالغة. بالفعل، الشكر الحقيقي لا يكون بالكتمان، بل باستخدام النعمة فيما يُرضي الله ويخدم الآخرين. بوركت قلمًا يُضيء المعاني ويزرع الوعي.




    تعليق

    • قلم على الطريق
      مساعد المدير العام لشؤون المنتدى

      • Nov 2010
      • 4648

      #3
      ان الله يحب ان يرى اثر نعمته على عبده
      اذا اتاك الله مالا دع اثره يظهر عليك
      في حياتك وفي صدقاتك واعمال الخير
      لا تحجر نعم الله وتخفيها عن الناس
      فان كان الله تعالى اعطاك مالا
      ربما اعطاهم ما يضاهي هذا المال علما او صحة او سترا
      فلنشكر الله على نعمه ولنصدح بهذا الشكر ليبلغ عنان السماء
      اخي الفاضل
      ساندروز
      ابدعت النشر
      فلك الشكر على هذا الموضوع القيم
      ودي واحترامي وتقديري

      تعليق

      • ساندروز
        المدير العام

        • Sep 2000
        • 12010

        #4
        شكرًا قلم على الطريق على هذه الكلمات النابعة من القلب، والتي تلامس جوهر النعمة والشكر الحقيقي.

        دمتَ منارة خير في هذا المنتدى، وبارك الله فيك وفي قلمك المميز.


        هاتف:
        0055-203 (715) 001
        0800-888 (715) 001

        تعليق

        مواضيع مرتبطة

        Collapse

        جاري العمل...